المسافة بين سرت ومصر الجديدة... بعيدة جداً (1)

28 يناير 2020
+ الخط -
بركات مديرنا العام

خريف 1999 تم الاتصال بي من سرت، وكان المتصل عضواً باللجنة التنظيمية للمؤتمر الأول و(الأخير) للموارد الطبيعية، وأخبرني أن علي أن أكون في مكان ما صباحا، بجامعة قاريونس (بنغازي) حالياً.. في الزمان والمكان المحددين، كنت موجوداً، لألتقي حوالي 35 باحثاً ومرافقاً، وأتتنا حافلة مريحة لتقلنا إلى سرت. أخبرت مدرائي بذلك.

عرض علي عن طريق سائق رئيس لجنة إدارة شركتنا، أن أذهب معهم يوم السبت، بناء على توصية مدير عام الشركة، وبرفقتي مديري العام، حيث كنا جميعاً نملك أوراق عمل مقبولة في المؤتمر. اعتذرت بحجة أني اتفقت مع صديق، على أن نذهب بواسطة الحافلة، وحقيقة الأمر، لم أكن أعرف أياً من المشاركين الذين ستقلهم الحافلة.

سافرنا الجمعة العاشرة صباحاً، ووصلنا مقصدنا بُعيد العصر بعد جملة من الاستيقافات السريعة والتوقفات، لأجد الدكتورة فاطمة، في استقبالنا في سرت عند القصور الرئاسية. د. فاطمة كانت رئيسة إحدى اللجان بذلك المؤتمر الضخم الذي لم ينقصه شيئاً سوى دعوة أجانب، ولعلها كانت مقصودة.

كانت الدكتورة فاطمة قد درستني على ما أعتقد، وهي صغيرة، في إعدادي طب، أحد أجزاء مادة النبات، وكانت أيضاً من المترددين على إدارة شركتي، وكثيراً ما التقيتها، وآخر مرة زرتها في شقتها بالأردن، بعد ثورة فبراير، زيارة عائلية بعدها لم أعلم عنها شيئا، عسى أن تكون بخير.


أهتمت بي شخصياً أكثر من زملائها الدكاترة، وقتها كنت مهندس كمبيوتر في الثلاثين. سألتني عن مديري العام ومجموعتنا، أخبرتها أنهم يأتون غدا مساء، فرتبت لنا إقامة في الغرف الرئاسية، التي تختلف عن باقي الغرف، وبما أننا أربعة، أعطتني مفتاحين.

كان جناحاً فخماً ضخماً به حجرتين، واحدة رئيسية، والأخرى، فرعية، ملحق بكليهما حمام، وصالات و"فرندات وبلكونيات"، وفرش وثيرة، وأثاث فخم، كيف لا وهي التي ينام بها الرؤساء حين يقدمون لزيارات "الأخ القائد".

التقينا بعدها بصالة الطعام، لتناول وجبة العشاء، فطلبت من زميل لها أن تستبدل الكرسي معه، وجلست بجواري. درستني حين كانت تحمل شهادة الماجستير، وأخبرتني قصة من قصص مديري الخيرة الكثيرة، إحداها، أن بسبب وجود قرار صدر حينها بضرورة وجود مرافق مع الطالبة، كادت أن تضيع عليها فرصة الدكتوراه، لولا تدخل الدكتور مديري، كونه كان عميد الكلية وعضوا، ربما هذا الأهم، بحركة اللجان الثورية، بأن وقع لها جواز العبور، أعتقد لأميركا، إن لم تخني الذاكرة، وله قلم ساحر، لكن لا يتفوق على أسلوبه الأكثر سحرا وجذبا -حينها- في قيادة الرجال، أنه يضمنها أكثر من ألف رجل، فحصلت على الموافقة الأخيرة، وذهبت، أخبرتني بهذا مؤكدة أنها لن تنسى له هذا "الجميل" ما كتب الله لها من عمر.

بسبب هذا، اهتمت كثيراً بمجموعتنا، وأنا صراحة أحب الوفاء والأوفياء. وبعد حوالي ثلاثة عشر عاما، استقبلتنا في شقتها، ولم نطل عليها فقد كانت "زيارة ونيارة"، وبالمناسبة، هي درست زوجتي الدكتورة في إعدادي طب بعدي بعام. علمت منها في زيارة عمان، أشياء مؤسفة وخاصة، ولأمانة المجالس، أتحفظ عن ذكرها.

حضر مديري العام ومدير إدارة الشركة، وأعطيته مفتاحه، فأبقى معه سائقه الخاص، فيما صديقي العزيز الأستاذ مفتاح تقاسم معي الغرفة، وفي اليوم التالي عرضاً ورقتيهما، وقفلوا عائدين إلى بنغازي، وتركني وحيدا، وحقيقة الأمر لم أكن وحيداً، كان برفقة نخبة من الأساتذة والمثقفين وزملاء الدراسة في كلية الطب، الذين انتقلوا لكلية العلوم وتخرجوا بامتياز وواصلوا وحصلوا على شهادة الماجستير، ومؤرخين، وفنانيين، وإعلاميين ومن لم أعرفه قبلا تعرفت عليه.

كانت ورقتي قد جدولت في آخر يوم، الثلاثاء. لم يجدوا لها محورا، فوضعوها آخر ورقة تحت محور يهتم بتنمية الموارد البشرية. تعرفت على البروفسور صاحب النكتة الحاضرة الدكتور عمر لأول مرة، وظلت علاقتنا إلى أن توفي رحمة الله عليه.

هو من الشخصيات البنغازية المشهورة بالتواضع والطرافة، كنت ألاقيه صدفة في سوق الظلام، السوق التركي الذي يشبه سوق المشير في طرابلس، هدمه أحمد مصباح الورفلي، مع بداية الثمانينيات، وبعدها تحدثوا عن أن الأتراك لم يتركوا أثرا، وقارنوهم بإيطاليا التي بنت المدارس والبيوت والمشافي، وعبّدت الشوارع متناسين أن إيطاليا قدمت استعماراً استيطانياً، صاحب حق يعود لآلاف السنين في ليبيا، واعتبرتنا شاطئا رابعا لها، ما بنته حكومات إيطاليا المتعاقبة، كان لمستوطني ليبيا من الطليان.

العثمانيون، أولا وإن كان يقسم العهد العثماني إلى عهدين، فصلت بينهما الحقبة القره مانللية البشعة، فذلك تقسيم في طرابلس، وفعلا لا يُعرف في برقة سوى العهد العثماني الثاني، تقريبا، وفيه السلطات تركت للأسرة السنوسية إدارة البلاد. فترة القره مانللين، امتدت لأكثر من قرن وربع، حصلت فيها معظم مآسي أقاليم برقة، من هجرة قبائل الفوايد مروراً بهجرة قبائل أولاد علي، ومعهم قبائل عيت فايد، إلى هجرة قبائل الجوازي إلى بر مصر، وتعدادهم مع ذوي الأصول اللييية الآخرين يصل لنحو 20 مليونا، أقل من ربع تعداد سكان مصر.

كانت ليبيا فقيرة، ولذا لم يكن هناك من يدفع "الميري" خاصة برقة الفقيرة جدا. العثمانيون ينفقون على الولايات وفق ما يصلهم من إيرادات منها. كنا فقراء جدا وأستطيع أن أزعم أن ما دخل خزينة الدولة العثمانية، أقل مما صرفته علينا!

لو تحدثنا عن مصر فذاك صحيح، كونها أغنى الأمصار قاطبة، ويؤخذ منها ليتم الإنفاق على ولايات أخرى فقيرة فقرأ مدقعا. وشاهد الإثبات أن لمصر تحديداً من دون الأيالات الأخرى سوقا ما زال موجودا في الجانب الأوروبي من إسطنبول يدعى "مصر بازار" بالقرب من أكبر الأسواق المسمى "غراند بازار".

في إسطنبول، هناك أكثر من ثلاثين مسجداً جامعاً متطوراً، بها نظم مياه ومجار لا مثيل لها في أوروبا وعمارة ولا أروع وأبدع. كل جامع كان يعمل كجامعة بها أقسام داخلية، مثلا جامع السلطان أحمد به أربعمئة غرفة ملحقة مخصصة لطلبة العلم، من كل الولايات، ولدي أقرباء، تعلموا في تركيا.

وآخرين تدربوا في الجيش وعادوا ضباطا وجاهدوا كل في البلد التي وضع بها، كما هو الحال في ليبيا، هناك على سبيل المثال لا الحصر أسماء مشهورة، أمثال أنور باشا وأتاتورك وعثمان الشامي، فلسطيني من حيفا قائد دور البراعصة وصهرهم، ورسلان باشا وهو درزي من جبل لبنان، جد النائب طلال، وعزيز بي المصري ومن كل البلدان هناك ضباط، عدا ذلك السعودي الذي روجوا له كذبا أنه جاهد مع عمر المختار، ووقتها لم يكن السنوسيون يعرفوا سوى الحجاز. وما تبقى من إعمار الأتراك دمره المدمِّر مثل سوق الظلام وغيره.
8E38CF27-B10A-4916-A022-177616221C42
أحمد يوسف علي
مختص في نظم المعلومات ومحاضر جامعي سابق.