المدينةُ التي أعشقُها عشقاً

12 أكتوبر 2015
لوحة للفنان الإسباني ماريانو بيرتوشي (Getty)
+ الخط -
إذا رأيتَ يوماً منظراً بانورامياً لطوابير طولها عشرات الكيلومترات من سيارات مرصوصة لا تتقدّم أو تتأخر مدة ساعات، أو إذا عشت هذا الجحيم مرّة واحدة على تخوم المدن الكبرى أو عند ساعات انتهاء الدوام، أو في بعض شوارع المدن العربية كالقاهرة والجزائر، فستكرهُ حياتك وتشعر بالتعاسة والنرفزة والنكد. لكأنّك حينها تعيش في أجواء "سورة القارعة"، أو أمام جيوش صرارير مزدحمة في باب المدينة، تلوّثها بغازات الاحتباس الحراري. تدمّر أعصاب الإنسان وتقيّد حركته.
مرّ على تاريخ حركة المواصلات المدنية أكثر من قرن، لم تتغيّر فيه بنيتها حتى الآن. صارتْ عتيقة قاتلة، ووصلتْ اليوم إلى طريق مسدود يزدادُ إخفاقه مع تدهور وضعِ كوكبِنا المختنق بإفرازات نشاطات الصناعة والمواصلات المختلفة.
اقرأ أيضًا: مرقص محموم في صالة مرضى
تتقيأ هذه النشاطات الإنسانية غازاتها بكميّات زلزلتْ اتساق المنظومة البيئية لكوكبنا، لدرجة أن العبارة الرسميّة التي تتكرر اليوم في أدبيات المؤتمر الدولي للبيئة الذي سينعقد في باريس نهاية هذا العام، COP21، سوداوية لا ترحم: "تأخّرت البشرية عن الحل، تأخّرت أكثر من اللازم".
استمرار البنية المعاصرة للمواصلات، يبدو مستحيلاً في المستقبل مع نذير زيادة الانفجار السكاني لكوكبنا: ملياران إضافيان ينتظران المعمورة خلال العقود الثلاثة القادمة. سيزداد خلالها سكان لندن مثلاً حوالي مليونين إضافيين، من دون الحديث عن بعض المدن العربية التي تزداد فيها معدلات الولادة بأرقام عشوائية خيالية. لا حلّ للإنسان إذن إلا إعادة تخطيط مدنه من منطلق جديد، إذا كان لا يريد أن ينكبس فيها ويتخثّر.
لذلك برزت مصطلحات ومشاريع تسمى بـ Smart City: المدينة الذكية، أو الأنيقة. تلك التي أعشقها عشقاً. الكلّ يراها كما يحب، ويرسم مشاريعه حولها بطريقته، في كل مجالاتها؛ من معمارٍ واتصالات وفضاءات ثقافية ومواصلات. بالنسبة لي، هي مدينة تتكىء على التكنولوجيا الحديثة، وعلى الثقافة كحلّ لأزمة الحضارة الإنسانية الراهنة.
اقرأ أيضًا: قبلة على خد البرمجية
التكنولوجيا الحديثة، في الحقيقة، سيف ذو حدّين، يمكنه أن يشتغل حثيثاً لمصلحة قوى المال وتدمير البيئة، كما حاله غالباً اليوم. ويمكنه أن يشتغل لمصلحة الإنسان وسعادة كوكبنا الأزرق، كما تسعى له بعض المشاريع الديمقراطية: البرمجيات المجانية، والموسوعات الإلكترونية المجانية، والاقتصاد التكافلي، ومشاريع الطاقة المستدامة.
تطوّرات التكنولوجيا الحالية مدهشة وواعدة: السيّارات التي تسير بدون سائق؛ ببرامج ذكيّة، ولاقطات وكاميرات إلكترونية متّصلة بكل محيطها، هي أفضل الحلول لتلافي ضحايا المواصلات، التي يسبّبها الإنسان غالبًا.
فهذه السيّارات، التي لا يقودها إنسان، لم تعد حلماً طوباوياً بل غدت حقائق على الأرض، تتطوّر الأبحاث لتحسينها، وتهيئ الشركات الكبرى نماذج عملية لها ستغزو السوق قريباً.
السيّارات التي لا تنفث غازات الاحتباس الحراري في تطوّرٍ مضطردٍ هي الأخرى، تكتسح سوق المواصلات المدنيّة أكثر فأكثر. نجدها حالياً، مثل دراجات "التوليب" القابعة في باحات مختلفة في أرجاء باريس: بسعر رمزي بسيط يضمن اشتراكك فيها لعام، تستطيع أن تأخذ إحداها من أقرب باحةٍ لك، لتقودها في طرق خاصة مزفتة حديثة، وتتركها في أقرب باحة وقوف من مرفأ رحلتك. هكذا، بإمكان التكنولوجيا الحديثة صنع مفاتيح حلول عبقرية جديدة لمواصلات الغد، حال كان هدفها جذريّاً: مواصلات بدون خيط من ثاني أكسيد الكربون، بدون اصطدام واحد، بتصميم ورؤىً وطرائق جديدة، ضمن ما يسمّى مشاريع: "المواصلات الجماعية الذكية، حسب الطلب".
لا حاجة في المدن الكبرى إلى قيادة سيارات شخصية تنتشر في الطرق كالفيروسات. لا سيما وأن الحل البديل: أفضل وأسرع وأرخص. وسيقبل الجميع، لهذه الأسباب الثلاثة، منع استخدام السيارات الشخصية في المدن الكبرى، أو التقليل منها في حدودٍ قصوى.
كم سيكون ذلك رائعاً! لا حاجة لهدر ساعات في البحث عن مواقف للسيارات، أو لبذل مجهود ووقت في قيادة سيارة. الوقت الذي سيربحه الإنسان، والأماكن التي ستحل محل باحات الوقوف، ستصير أوقاتاً لسعادته وبهجته، وأماكن لنشاطات ثقافية وفنيّة و"معامل فكر".
كيف يتحقّق ذلك إذن؟
اقرأ أيضًا: ساخاروف غاغارين والمهدي المنتظر
لدى كل إنسان، على هاتفه المحمول، عناوين الأماكن التي يذهب إليها عادة: العمل، محطة القطار، مركز المدينة، مطاعمها، مسارحها. يكفي أن ينقر وهو يخرج من منزله، أو حيثما كان، على أحد هذه العناوين، أو أن يضيف عنواناً جديداً. فترتسم على شاشة هاتفه أنواع السيارة الجماعية الذكية التي يود ركوبها: نوع يمكن أن يشتغل فيه أثناء الرحلة كما لو كان في قطار أو طائرة، أو آخر يتفسح فيه ويتحدث مع من حوله ويشاهد برامج ثقافية. ينقر على ما يشاء من خيارات.
ينتقل طلبه إلى كمبيوتر خادم "سيرفر" في دائرة جغرافية تحيط به، أو مباشرةً إلى مجموعة سيارات "المواصلات الجماعية الذكيّة" القريبة منه جغرافيًا، وليس إلى "سيرفر" مركزيّ لكل المدينة فقد يختنق من فرط عدد الطلبات.
يحدّد برنامج ذكي يستلم الطلب، أي سيارة هي الأقرب والأنسب التي يتّجه راكبوها الحاليون إلى المكان الذي يبتغيه صاحبنا أو إلى مكان قريب منه، والتي يتفق ديكورها مع مزاجه. تصله السيارة بعد دقائق، لتأخذه ومجموعته ضمن أقصر مسار يتجه نحو مآلاتهم، وتحسبه خوارزميات دقيقة. كل أضواء الطريق الحمراء "ذكيّة": تتواصل إلكترونيًا مع السيارة، ولا تمنع مرورها إلا عند الحاجة لا غير، ولأقصر مدة فقط. يتم كل ذلك في حركة كليّة نظيفة نموذجية في اختصارها المسافة والوقت، وثمن الرحلة الذي بتوزعه على مجموع الركاب يصير بالضرورة أرخص من ثمن قيادة سيارة شخصية. ويتحقق داخل فضاء معماري جديد وجميل: يمكن أن يشبه بهو السيارة سفينة فضائية سداسية المحيط، جميلة الديكور والشاشات، وبأحجام متنوعة تتّسع لأعداد مختلفة، وبمقاعد مريحة تتيح قضاء وقت الرحلة بالعمل أو التثقّف والمتعة، كما يهوى الزبون.

تشكّل هذه الوسيلة الجديدة العمود الفقري لحركة مواصلات المدينة الذكية. وتتكامل مع المواصلات التقليدية: باصات، دراجات، مترو أرضيّ أو هوائي. إذ يعاد تنظيم حركة هذه الأخيرة بشكل تكامليّ جديد، لامتصاص الطلبات المزدحمة المتواترة الكبرى.
والنتيجة: شبكة مواصلات نموذجية في تقليلها الأمثل للمسافات المقطوعة في كلّ المدينة، لاستخدام الطاقة، لتكلفة المواطن، لعدد السيّارات التي تعبر المدينة. تتحرّك بسرعة سائلة في طرق نظيفة قليلة السيّارات، وفي فضاءٍ نقيّ سعيد.
الجنّة على الأرض ممكنةٌ حقّاً بفضل خوارزميات ذكيّة، وإنسانٍ يحافظ بعشقٍ على تناغم منظومة كوكبنا البيئية وتوازنها؛ كوكبنا الأزرق الحبيب.
المساهمون