المدن المعارض.. ملتقى المال والأفكار والأنهار

10 نوفمبر 2017
(رسم لفرانكفورت من القرن التاسع عشر)
+ الخط -
في عقود منتصف القرن العشرين، كانت توجد في أوروبا مسابقة في كرة القدم تسمى "كأس المدن المعارض" (جرى استبدالها لاحقاً بتسمية "كأس الاتحاد الأوروبي"). قديماً، وأنا أقرأ في قائمة ألقاب فرق كروية شهيرة مثل "جمعية روما" أو "نادي برشلونة"، مرّ أمامي في مناسبات عديدة اسم "المدن المعارض"، بدا غريباً ولكني ظننت التسمية تستمدّ معناها من تفاصيل في تاريخ كرة القدم، ولن يكون للتنقيب في أصلها وفصلها جدوى كبيرة.

حين زرت "معرض فرانكفورت للكتاب" هذا العام، حملتُ معي سؤالاً: ما الذي يفسّر أن يكون هذا المعرض بالذات - وأيضاً معرض للسيارات يسبقه -أهم معرض في العالم في مجاله رغم وجود مدن مركزية أخرى في هذه الصناعات مثل نيويورك وطوكيو وباريس ولندن.

الإجابة التي يقدّمها الألمان عادة هي قدرة المعرض على التجدّد سنوياً واستقبال العالم، لكن مدناً كثيرة تستطيع فعل ذلك، من هنا تأتيك إجابات أخرى، بعد تفكير، حول عامل العراقة حيث أنه ينتظم منذ خمسة قرون.

خمسة قرون إلى الوراء؟ يعني أننا نعود إلى فجر الحداثة وفجر الرأسمالية، بل إن الكتاب نفسه كان بضاعة نادرة. لماذا يتنظم إذن معرض للكتاب في فرانكفورت منذ ذلك التاريخ؟

لا وجود لجواب مباشر، لكن توجد خلفيات، فالمدينة الألمانية مثل مدن أوروبية أخرى، سمّيت "مدناً معارض" توافق حولها حكامٌ وتجّار وحرفيّون في نهاية العصر الوسيط لأسباب جغرافية واقتصادية عدة.

فرانكفورت، وميلانو ولندن وستراسبورغ وبرشلونة ومدن أخرى، كانت تستقبل معارض لكن ليست بالمعنى الذي نعرفه حيث تنغلق في مجموعة قاعات، المعرض في ذلك الزمن يشبه مفهوم الحج إلى مكة في الجزيرة العربية، مع قصره على البعد الاقتصادي.

يأتي المشتركون في مجال ما من كل صوب، وهناك تتنافس بضائعهم ويتفاعلون في ما بينهم حتى أن بعض المؤرخين يجعلون من هذه المدن محاضن لتبلور الرأسمالية؛ إذ وفرت فضاءات كي تقف فيها رؤوس الأموال وراء أفكار مبتكرة فتنشأ "المؤسسة الاقتصادية" بمعناها الحديث.

ذلك ما تمّ حرفياً مع مهندس ألماني في القرن السادس عشر؛ يوهانس غوتمبرغ، مخترع الطباعة التي لا يخفى أنها إحدى قوابل العصر الحديث. أتى غوتمبرغ إلى معرض فرانكفورت من مدينته المجاورة، ماينس، باختراعه وهو في صيغته الجنينية، وهناك وجد شركاء (مموّلين ورجال دين وكتّاب) لتحويل المطبعة من مجرّد آلة إلى مشروع يحرّك التاريخ.

هل كان اختراع غوتمبرغ سيكون مرئياً لو أنه بقي معزولاً في قريته؟ يصعب تصوّر ذلك. عودة إلى فرانكفورت والسؤال حول معرضها: يبدو أن الكتاب في فرانكفورت يعود إلى مسقط رأسه.

دلالات
المساهمون