المدنيون في العراق: ضحايا مجهولون في زمن الموت الجماعي

20 ابريل 2015
المدنيون يشكلون السواد الأعظم من الضحايا (صافين حامد/فرانس برس)
+ الخط -
يرحل غالبية من يقتلون في العراق في صمت، من دون أن يُثير موتهم وسائل الإعلام، أكان سبب مقتلهم أو هوية قاتلهم الحقيقية. يبقون مجرد أرقام في لائحة طويلة تتضمن حصيلة القتلى والجرحى بعد انقشاع تراب الجريمة، وسرعان ما يتم نسيانهم بعد امتلاء لائحة جديدة جراء انفجار أو هجوم جديد في اليوم الذي يليه، هذا ما تؤكّده منظمات ومراكز حقوقية محلية، ومصادر في وزارة الصحة العراقية كشفت لـ"العربي الجديد"، أنّ 89 في المائة من ضحايا العنف الدائر في العراق اليوم هم من المدنيين.


اقرأ أيضاً: (عشائر تكريت تناشد القوات العراقيّة بوقف قصف الأحياء السكنيّة)

وتكشف أرقام جديدة أعدّتها وزارة الصحة العراقية، وأكّدتها منظمات ومراكز حقوقية محلية في بغداد وأربيل عن ارتفاع (مخيف وغير منطقي) في عدد الضحايا المدنيين الذين يقتلون في العراق. وتشير الأرقام إلى أنّ سبب قتل المدنيين عادة يكون إما بسبب خطأ غير مقصود أو لدافع طائفي. وبات الأخير السمة الأبرز، التي تميز الصراع اليوم في البلاد، سواء من طرف القوات الحكومية والمليشيات التي تقاتل إلى جانبها، وتتعمّد القتل لدافع طائفي، أو تقتل بعشوائية وتستهر بحياة المدنيين، كما هو حال الطيارين العراقيين، الذين نقلوا عدواهم إلى زملائهم طياري قوات التحالف الدولي، أو من جانب تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، الذي تتنوع أسباب القتل لديه، بين طائفية، وأخرى مذهبية، بعد أن يدخل في تفاصيل الطائفة نفسها فيصنفها بين صوفي وسلفي وإخواني أو صحوجي، أو لأسباب مزاعم بالعمالة والردّة عن الدين، ناهيك عن هجماته العشوائية التي تستهدف القوى الأمنية والمليشيات التي تقاتل إلى جانبها، وتحصد في طريقها المدنيين. وبحسب الخبير بشؤون الجماعات الإسلامية المسلحة هاشم الهاشمي، فإنّ "داعش" أعدم وقتلت أكثر من ٦٠٠٠ مواطن من الأنبار وحدها منذ بداية العام ٢٠١٤ حتى أبريل/نيسان ٢٠١٥.

يقول مسؤول عراقي رفيع في وزارة الصحة ببغداد، فضل عدم نشر اسمه، لـ"العربي الجديد" إنّ "عدد المدنيين الذين يسقطون في الصراع الدائر، بات مخيفا وغير منطقي على الإطلاق، وهناك استهتار واضح بحياة المدنيين من قبل طرفي النزاع". يضيف المسؤول، الذي يشغل منصباً رفيعاً في دائرة الإحصاء والتدقيق في وزارة الصحة، أن 89 في المائة من الضحايا الذين يسقطون هم من المدنيين، والنسبة الأخرى من الجيش والمليشيات ومقاتلي تنظيم "داعش"، وهو ما اتضح من آخر إحصاء قدمته الوزارة لمجلس الوزراء ومفوضية حقوق الإنسان العراقية المستقلة.

ويوضح المسؤول نفسه أن "غالبية الضحايا المدنيين هم من سكان مدن شمال وغرب العراق وبغداد، التي يغلب على سكانها مذهب أو لون ديني معين". ويبين أنّ "عدد القتلى التقريبي للمدنيين العراقيين منذ سقوط الموصل ارتفع إلى أكثر من 39 ألف مدني، قُتل غالبيتهم بسبب القصف الجوّي والصاروخي والمدفعي على المدن الشمالية والغربية من العراق، وبسبب المعارك الدائرة التي نقلها "داعش"، إلى داخل أحياء سكنية ومدن وأسواق مكتظة بالسكان المدنيين، مؤكداً أن "الطرفين منعوا المسعفين من الوصول، ولو وصلوا في الوقت المحدد لإخلاء الجرحى لكان هذا العدد أقل بكثير".

وأشار المسؤول العراقي، الذي طلب عدم نشر اسمه، إلى "ارتفاع كبير ومقلق في عدد ضحايا الهجمات الجوّية التي تنفّذها قوات التحالف الدولي يومياً في العراق، حيث بلغ عدد قتلى غارات التحالف الدولي من المدنيين عن طريق الخطأ، أو قصف مواقع لتنظيم الدولة داخل أحياء مأهولة بالسكان بواسطة صواريخ عالية التدمير، نحو 130 مدنيا، من بينهم 9 عائلات قضت بالقصف داخل منازلها".

وتابع "بلغ مجموع الأطفال والنساء الإجمالي 61 طفلاً وامرأة، بينهم 4 رضع وسيدة واحدة حامل، وهو عدد تقريبي، ويبقى أقل بكثير من ضحايا قصف الطائرات العراقية التي فاق عدد ضحاياها من المدنيين عتبة ثلاثة آلاف مدني، معظمهم قضى في الموصل وتكريت والفلوجة وبيجي والحويجة، فضلاً عن الكرمة وهيت والقائم غرب العراق". في المقابل، احتلت العمليات العسكرية المباشرة، النصيب الأكبر من أسباب سقوط المدنيين، تليها الهجمات الانتحارية التي تركزت في العاصمة بغداد، وتحمل بصمات "داعش".

ولفت المسؤول نفسه إلى أنّ تكرار قتل المدنيين بواسطة القصف الجوّي لا يقابل بأي اهتمام من حكومة حيدر العبادي، إضافة إلى أنّ كثيرا من مآسي ومجازر أخطاء الطيارين لا تغطى إعلامياً، بسبب وقوعها في مناطق نائية، أو منع "داعش" عمل المراسلين هناك وتهديده لهم بالقتل، وكذلك الحال بالنسبة للمليشيات التي تحتل الصدارة في عمليات القتل على الهوية للمدنيين العزل، حتى لو كانوا رعاة أغنام كما حصل في كركوك قبل فترة، كما يقول المصدر نفسه.
وبيّن أنّ "عدد الجرحى الذين يسقطون أكبر بكثير بطبيعة الحال من القتلى، وطالبنا الحكومة بفتح تحقيق واسع في الموضوع منذ أسبوع تقريباً، لكنها لم ترد على الطلب، كون تقرير الإحصاء تزامن مع بدء معارك تكريت، ولم تبد الحكومة أي اهتمام بتقريرنا".

بدوره، يؤكد مدير منظمة "السلام العراقية لحقوق الإنسان"، محمد علي، لـ"العربي الجديد" أن "لا أرقام دقيقة عن قتلى المدنيين في العراق مع استمرار الصراع المسلح، وحتى أرقام وزارة الصحة غير دقيقة". ويضيف علي أنّ "عدد المقابر التي تم افتتاحها تؤكد أن أعداد الضحايا فاقت تلك التي أعلنتها وزارة الصحة؛ فما بين القصف الجوي والصاروخي وجرائم إعدام المدنيين من قبل مليشيات (الحشد الشعبي)، مروراً بتفجيرات (داعش) الانتحارية وعمليات الإعدام الجماعي التي ينفذها، يتواصل مسلسل سقوط المدنيين، مشيراً إلى أن الحكومة تتعمّد تقليل أرقام الضحايا المدنيين "كجزء من الحرب الإعلامية المجاورة للحرب الطاحنة اليومية".
ويبيّن أن "المليشيات تجد في المدنيين أهدافا مشروعة للقتل بطرق مختلفة، بعضها يرتقي إلى وصف حفلات قتل على وقع الأهازيج والشعارات الدينية، فيما يستكمل داعش الحلقة من خلال التفجيرات الانتحارية والاعدامات".

وقبل شهر من اليوم، دفن سكان بلدة الكرمة عائلة كاملة مؤلفة من تسعة أشخاص قضوا جميعاً نتيجة قصف جوي استهدف منزلهم ومنازل مجاورة، تسبب في قتل 34 مدنياً، بينهم عدد من الأطفال والنساء من ثلاث عائلات.
 ويقول أحد الزعماء القبليين في البلدة، ويدعى الشيخ خالد الجميلي، لـ"العربي الجديد" إنّ "المدينة اعتادت على دفن الموتى بشكل شبه يومي، نتيجة قصف الصواريخ أو الطائرات". ويشير إلى أن العشرات من المدنيين، نساء وأطفال ورجال، قضوا بالقصف ودفنوا بدون أن يعلم بهم أحد، لا وسائل إعلام ولا الحكومة، فقط نحن والطيار الذي قتلهم ورب العالمين".

بدوره، يقول عضو البرلمان العراقي، أحمد الدليمي، لـ"العربي الجديد" إنّ "التداخل الحاصل بين السياسة والحرب أنسى العالم المدنيين الذين باتوا وقودا رخيصا جدا لمعركة بشعة تقوم على أسس دينية ومذهبية وقومية ضيقة".
وحول صمت وسائل الإعلام، يقول صباح محمود، وهو مراسل حربي في صحيفة أميركية يومية عاملة في بغداد، لـ"العربي الجديد": في الفترة الأخيرة أُبلغنا من قبل هيئة التحرير بعدم تغطية التفجيرات التي يسقط فيها أقل من 10 أشخاص". ويضيف "شيء محزن الحالة التي وصل إليها الدم العراقي".
المساهمون