يأتي أيلول/سبتمبر من كل عام حاملاً بين نسماته لطفاً يهدد حرارة وصهد الصيف، وينشر خريفاً ملثما بروائح شجية تحملها أوراقه المتساقطة بين الشجر وتعبق بها فواكه موسمه، كنّا نسميه حين كنّا صغاراً بـ"جو المدارس" فرغم كل شئ تبقى ترتيبات الاستعداد للمدرسة الطقس الأهم في الشهر، بما تَخُطه من آثارٍ بعيدة في ثنايا الذاكرة والوجدان.
تبدأ الاستعدادات في مستهل كل عام دراسي جديد بسعي الآباء نحو توفير المُؤَن الدراسية لأبنائهم، ومع تَألُق سوق المكتبات عام بعد عام في تزويد جرعة الجاذبية الاستهلاكية في الأدوات المدرسية، بين الأقلام الملونة والمساطر السحرية والكراسات المغلفة برسوم كارتونية محببة، تبدو حتمية الجاهزية المادية للاستجابة هى أولى شروط الاستعداد.
زهوة المدرسة
ورغم ما توفره زهوة الملابس والشنط والأدوات الجديدة لدى التلاميذ من إقبال حثيث على العودة للمدرسة بعد الإجازة الصيفية، إلا إنه سرعان ما يُحبط بخطوات الاستعداد المتتالية والتي تتصدرها التحذيرات الأُسرية المعتادة للأبناء على غرار: "كفانا لعب.. لقد حان وقت الجد"، بل قد يتبع بعض الآباء إجراءات حادة مثل إغلاق التلفاز أو منع الإنترنت أو غير ذلك من الإجراءات التي قد تبدو عقابية، لكنهم يحسبونها السبيل لإرساء حالة "الجد" المقصودة والتي هى وفق تلك الحال شرط النجاح ومُحدِده.
لم تقف تلك الثقافة التي تَخلُق عداءاً بين التعليم واللعب حد الأُسر، بل تبدو مزدوجة الاتجاه كأنها من المدرسة وإليها، إذ تُسجل المدارس انحساراً مؤسفاً في كافة مجالات الأنشطة، التي هى متنفس التلاميذ للتعبير عن ذواتهم وقناتهم الأهم للتطبيع مع المدرسة، ومع ذلك فقد صُكت تسمية الحصص المخصصة لها بـ"الحصص الفاضية" هكذا بملء الفاه يصفها المعلمون والطلاب على حد سواء، بل هى مطمع بعض المعلمين لملأها بالمناهج المعرفية "الجادة"!
اقرأ أيضا: تعليم الـ 3 ملايين رأس جاموس!
على النقيض التام من ذلك صار متفق عليه بإجماع وبصفة عالمية، أن نشاط التلاميذ الذي يشمل الحركة والمشاركة واللعب هو جزء من عملية التعلم الحقيقية وليس مكملاً أو ملطفاً لها، وعليه فقد عَظُمت المناداة بالألعاب التعليمية وورش العمل ولعب الأدوار كوسائل تعليمية هامة نحو تعليم جيد، لذلك زيدت في كافة المواد الدراسية درجات عُرفت بـ"درجات النشاط"، وهى من قبيل حث المعلمين على اعتماد وتفعيل منهج التعلم النشط.
لكن لمَّا كانت حصص النشاط بذاتها محل إهمال تام فإن درجات النشاط في المواد المعرفية صارت تُمثل السؤال الأصعب لدى المعلمين العازفين عن مواكبة مناهج التعليم الحديثة، فكيف يُقَيّم "نشاط" التلميذ المقيد بمقعده، كيف وإن علت أنفاسه في الفصل المكدس بالتلاميذ تصبح مصدراً للضوضاء التي تعطل عملية التعليم التي ماتزال صورتها في الأذهان مشروطة بالهدوء التام الذي ييسر تمرير المعلومات من المعلم المُلقن إلى تلاميذه المستمعين، وما المزاح أواللعب إلا عارض للتهوين!
عزوف التلاميذ
تجسد تلك الثقافة الحالة التي يحكيها المثل الشهير "للدبة التي قصدت أن تحمي صاحبها فقتلته" إذ لا ينتج عنها إلا مزيداً من عزوف التلاميذ عن التعليم وانقباضهم منه، وإن دعمت المدرسة تلك الثقافة بدوافع التكدس الطلابي والعجز المادي، فإن الجهل بمحددات عملية التعليم وأهدافها وتلخيصها السافر في عدد ساعات الانكباب على الكتب للمذاكرة، هو المبرر الأقوى لسَوْق الأُسر نحو تلك الممارسات تجاه أبناءها.
ومع ذلك فإن ما تفرضه تلك الثقافة من قولبة جامدة للتعليم، يبشر بالنتيجة المحتومة ألا يتناسب القالب مع الجميع، فهو بالضرورة يضيق عن البعض فيما يتسع عن آخرون، ولن يحالفه الحظ إلا من يطابقه المقاس فيتلبسه تماماً، فينجح!
تبقى المفارقة الأهم هى تسجيل نجاح "السوق" في الاستعداد للمدرسة والتربح منها وإثارة الإقبال عليها بما فَطِن من أهمية تضمين منتجاته لعناصر الجذب والإثارة، فيما فشلت الأسرة والمدرسة، فهل آن أوان إدرك المعادلة والسير على الخطى؟!
اقرأ أيضا:من يعلب "برجيس" الآن؟!