عكست صناعة المخطوط في التاريخ عن تطورّ كبير شهدته هذه الحرفة التي ترسّخت ضمن تقاليد وأعراف في عدد من مراكزها التي انتشرت في العالم الإسلامي، حيث توجد العديد من المؤلّفات التي تتناول صعود النسخ ومكانة النساخ في مجتمعاتهم.
"أماكن نسخ المخطوطات في عُمان" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً للباحث حميد بت سيف النوفلي عن "الآن ناشرون وموزّعون"، ويحتوي عرضاً تاريخياً عن مراكز نسخ المخطوطات في أسواق عُمان ومدنها وموانئها، مضيئاً عدداً من الأماكن المغفول عنها والمتعلقة بنسخ المخطوطات؛ كالمساجد والحصون وغرف الصلاة الملحقة بالحصون، وظهور المراكب أثناء التنقل بين الموانئ في الأسفار البعيدة.
يشير الكتاب إلى تأثير المكان في النسّاخ وارتباطهم باسم المدينة التي ينتمون إليها على مخطوطاتهم أو بلدته أو قبيلته، ومنهم خلف بن محمد الضنكي نسبة إلى مدينة ضنك، وناصر بن سالم النزوي نسبة إلى مدينة نزوى، وعامر بن راشد السمدي نسبة إلى بلدة سمد، وسعيد بن خلفان السري نسبة إلى أرض السر، وغيرهم.
كما يلفت إلى مساهمة النساء في تنشيط الحركة العلمية، فبرزت نساء ناسخات مثل رواية بنت عبد الله الرستاقية نسبة إلى مدينة الرستاق، وعائشة بنت مسعود الإزكوية نسبة إلى مدينة إزكي، وسعادة بنت عبد الله الرميسية نسبة غلى قرية الرميس، ومرهونة بنت زهران الإمطية نسبة إلى قرية إمطي، وأخريات.
يتناول المؤلّف أربعة محاور: دور الأسواق العُمانية في حركة نسخ المخطوطات، ودور المدن العُمانية في حركة نسخ المخطوطات، ودور الموانئ العُمانية في حركة نسخ المخطوطات، وأماكن أخرى نُسخت فيها المخطوطات العُمانية.
ويحدّد مراكز النسخ التي تتوزّعها مدن وبلدات عُمانية وعدد المخطوطات التي أنتجتها كلّ واحدة منها، كنزوى وسمائل والرستاق والسويق وبهلا وإزكي والمصنعة وإيرا والنخل والمضيبي، والتي احتضنت أسواق الكتبيين، كما وردت أسماؤها في عدد من المخطوطات، وأيرزها سوق مسكد وسوق قرية الغبي في بدية.
يفصّل أيضاً عناوين المخطوطات التي تُنسب إلى كلّ مدينة وبلدة، حيث نُسخت في صحار مثلاً "منثورة مختصة بجوابات المشايخ من علماء المسلمين" ونسخها قاسم بن مسعود بن مقدح، والجزء الثالث والثلاثون من كتاب "بيان الشرع" في قرية فنجا، وهو محفوط في خزانة الشيخ سيف بن حمود البطوشي، وكتاب "كشف الأسرار المخفية في علوم الأجرام السماوية والرقوم الحرفية" لمؤلفه العلامة عمر المنذري في بلدة السليف في عبري.
ويوضّح النوفلي أن حركة نسخ المخطوطات في عُمان أوجدت حراكاً اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، وعكست فكر المجتمع العُماني عبر العصور. مؤكداً أن المجال ما يزال مفتوحاً أمام الباحثين لاكتشاف المكنونات العُمانية من نفائس المخطوطات ونوادر كتب التراث العلمي للعُمانيين، وأن هناك من النتاج العلمي المكنون في أوعية التراث الوثائقي المتعددة الشيء الكثير الذي ما يزال ينتظر من ينفض عنه غبار الزمن لينقل المعرفة للأجيال المتعاقبة.
كما يتناول علاقة الموانئ بصناعة المخطوطات حيث نسخت فيها العديد من الكتب المتعلقة بعلوم البحار كما في مخطوطات أحمد بن ماجد المختلفة، ومخطوطة "معدن الأسرار في علم البحار" للنوخذة ناصر بن علي الخضوري، لافتاً إلى ما نسخ أيضاً داخل الخصون من مؤلّفات الفقه والشعر والعلوم وكذلك في أكثر من أربعين مسجداً، وأخيراً استعرض المخطوطات العُمانية التي تمّ نسخها خارج عّمان سواء في اليمن أو الهند أو الباكستان أو مصر أو شرق أفريقيا وغيرها.