المخرج الإيطالي بيراردو كاربوني لـ"العربي الجديد": هناك دائماً إمكانية لتغيير الأشياء
عائلة مُكوّنة من نساء يمثّلن 3 أجيال: الجدّة، الأم وماتيلد، الحفيدة المراهقة. في البداية، تظهر الأم (في غياب تام وغير مفسَّر للأب، يحمل دلالات مهمّة) وهي تسعى إلى إيجاد عمل يكفل للعائلة تجاوز أزمتها المالية، وتجنّب تهديد الطّرد من المنزل، بينما تمضي ماتيلد معظم يومها على شبكة الإنترنت، مندمجة تارة برفقة معشوق افتراضي، في لعبة فيديو انغماسية وتشاركية، ومتعرّية تارة أخرى على مواقع إباحية لجني بعض المال.
تشهد حبكة الفيلم ذروتها حين تقرّر ماتيلد عرض عذريتها للبيع وفق مزايدة على الإنترنت بغية جني مبلغ مالي يخرج الأسرة من أزمتها، فيُشارك الشيخ الصيدلي الغني ـ المُقدَّم في البداية كربّ عائلة بمظهر عادي، لكنّه منحرف ومضطرب نفسيًا في العمق ـ عارضًا مبلغًا ماليًا مهمًّا للحصول على فرصة "افتراس" ماتيلد.
وتبقى الضربة الكبرى للمعلّم مخرج الفيلم في طرحه كيفية تحوّل العالم الواقعي، تدريجيًا وأمام عيون المشاهدين، إلى لوحة سوداوية مغرقة في الغرابة والتوحّش، بالتوازي مع تحوّل العالم الافتراضي إلى فضاء شاعري مفعم بالإنسانية، فيلتقي التصوّران في مشهد ختامي تراجيدي يقول أشياء بالغة الأهمية عن موضوع مصيري يتمثّل بعلاقة الإنسان بالعالم الافتراضي، ومدى قدرته على الاحتفاظ بإنسانيته، في ظلّ تطوّر هذه العلاقة.
أثناء حضوره الدورة الـ23 (16 ـ 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"المهرجان الدولي لسينما المؤلّف في الرباط"، التقيتُ بيراردو كاربوني، الذي شارك فيلمه "يوتوبيا" (Youtopia) في المسابقة الرّسمية.
(*) بمناسبة عرضه، قلتَ إنك ترى "يوتوبيا" قصّةً خرافية قاسية.
ـ نعم. هو، كما في كلّ حكاية خرافية، يتمحور حول شخصيات "أركيتيبال"، التي لها نوع من الوازع الأخلاقي، أو رؤية أخلاقية للحياة. في الوقت نفسه، ينطوي على قصّة واقعية حول بعض جوانب الحياة المعاصرة وصعوبتها، وكيف تجري الأمور في المجتمع الإيطالي اليوم. الفيلم أيضًا محاولة لرؤية أنّ وراء هذه الصعوبة هناك احتمالات أخرى للحياة.
هذه ليست مسألة صورة راهنة للمجتمع فقط، بل أيضًا استشراف لما يمكن أن يصيره. أرى مثلاً "ألعاب الفيديو" كمادة ثقافية مهمّة تمكّننا من تخيّل كيف يصوغ التقدّم من الإنسان شخصًا مختلفًا قد يتمتّع بنظام قيم جديد، وهذا مغزى العنوان. فاليوتوبيا هبة تُمنح للشخصية الرئيسية من صديقها الافتراضي. إنها طريقة لتقول لها: العالم ليس بالضرورة كما ترينه، وكلّ شيء يعتمد على كيف يمكنك تغييره. كل يوتوبيا هي يوتوبيا شخصية، تعتمد على رؤية الشخصية للأشياء، والفيلم دعوة ضرورية إلى إجراء تغيير لصوغ عالمك الخاص في مواجهة قوى التسطيح والتنميط التي هي سمة عصرنا.
(*) هناك أيضًا جانب مستقبلي مثير للاهتمام في الفيلم. إنه يصف أيضًا أشياء لم نبلغها بعد.
ـ كلّ ما يحدث في هذا الفيلم ممكن تقنيًا. هذا ليس فيلم خيالٍ أو فيلمًا عن شيء غير موجود حتى الآن. لكن، بطبيعة الحال، فإنّ الطريقة التي اخترت سرد القصة بها تركّز على بعض جوانب الحياة التي ربما لا تكون في الخطّ الأمامي للحياة العادية. مع ذلك، فإنّ "ألعاب الفيديو" منتشرة جدًا اليوم، وتشكّل الوسيط الرئيسي الذي يقضي فيه الشباب جلّ وقتهم.
(*) الطريقة التي وصفت بها الحياة العائلية والعملية داكنة جدًا، وتعطي فكرة قاتمة عن الحياة والمجتمع في روما وإيطاليا بشكل عام.
ـ نعم، هذا ما أزعج الرقابة الإيطالية. اعتقدوا أنّ الفيلم يشكّل خطرًا، لأنّ الفكرة التي يعطيها حول مجتمعنا قاتمة للغاية. لكنّي أرى أن مجتمعنا اليوم، للأسف، شديد القتامة فعليًا. هذا تصوّري للحياة في إيطاليا اليوم، حيث يفقد مجتمعنا قيمَه شيئًا فشيئًا.
بالنسبة إليّ، مهمّ أن أكون، في جانب معيّن، شديد الصراحة بشأن ما نواجهه. هذا ليس شأني أنا فقط. أفلام إيطالية كثيرة تُنجز على هذا الشكل مؤخّرًا.
(*) هذا حال "لا تفترقان" (2016) لإدواردو دي أنجليس (فاز الفيلم بالجائزة الكبرى في الدورة الـ22 لـ"مهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الأبيض المتوسّط"، المُقامة بين 26 مارس/آذار و2 إبريل/نيسان 2016 ـ المحرّر).
ـ بالتأكيد، وأيضًا أفلام ماتيو غارّوني. هناك تلك الحالة الداكنة والشعور بضرورة مواجهة المجتمع كيفما هو. لكن، في الوقت نفسه، وهذا واضح في "لا تفترقان" بشكل جلي، نميل إلى القول إنّ هناك ـ بطريقة ما ـ إمكانية تغيير هذا المجتمع إلى الأفضل. في اعتقادي، هذه ميزة جيلنا، لأن جيل المخرجين الذين سبقونا كان يواجه حقيقة المجتمع كما هو بصدق شديد، لكنه لا يعطي أية إمكانية لتغيير الأشياء. إنها حالة "غومّورا" مثلاً (غارّوني، 2008)، الذي يقول إنّ "الأمور هكذا، لا يوجد أمل لتغييرها".
(*) تقصد غياب المقاربة الإنسانية.
ـ بالضبط. لم تكن هناك محاولة للعثور على إنسانية جديدة.
(*) وهذا أحد الأشياء التي أحبّها في نهاية "يوتوبيا"، حيث يمكن رؤيتها بطريقتين: أولى متشائمة، إذا فكّرنا في المصير المأساوي للأم؛ وثانية متفائلة، إذا تأمّلنا أن الفتاة تحقّق رحلتها الحالمة في المجال الافتراضي بعيدًا عن أنياب الواقع المفترس.
ـ تمامًا. هذا جوهر الفيلم. عندما ترى النهاية وتفكّر في ما حدث، فإنّها (تُظهر) مأساة كاملة، لأن الأم تصبح قاتلةً، وتغدو الحياة أصعب بكثير من قبل. لكن، من جهة أخرى، هناك جانب من روايات بلوغ الرشد عند النظر في مآل الفتاة. يمكنك أن ترى أنها تتطوّر، حتّى في المواقف الصعبة. لديها دائمًا بعض الأدوات لحلّ مشاكلها. تتعلّم بنفسها من خلال تبنّي واختبار قيم جديدة عليها، وأهمية أن تعيش الحياة وأن تنقذ نفسها بنفسها.
(*) هناك أيضًا فكرة أن العالم الافتراضي يمكن أن يكون لعنة عندما "يجلب الوحش إلى المنزل"، وأيضًا خلاصًا لأنه أنقذ الفتاة من السقوط في فكّه.
ـ تمامًا. أرى أنك التقطت روح الفيلم بحقّ. الفكرة هي أن العالم الافتراضي أداة، لا يمكن أن يكون جيدًا أو سيئًا. كلّ شيء يعتمد على كيفية استخدامه.
(*) أشعر أن لديك رؤية عميقة وغنية للعالم الافتراضي.
ـ هذا عائدٌ إلى أنّ لديّ خبرة طويلة في هذا المجال. أنجزتُ أفلامًا تجريبية في هذا العالم. في "يوتوبيا"، تمّ تصوير هذا الجانب لجعله أكثر ملاءمةً للجمهور العادي، باستخدام رسوم تحريكية ثلاثية الأبعاد. قبل ذلك، حقّقت أفلامًا تجريبية تمّ تصويرها داخل لعبة فيديو. لتحقيقها، عملت أشهرًا عديدة في أمستردام، لكنّي كنتُ أشتغل مع أشخاص من أنحاء مختلفة في العالم، يندمجون معي في لعبة الفيديو.
بدأتُ أعيش تجربة مماثلة لتلك التي أصفها في هذا الفيلم، مع شعوري بجاذبيةٍ تجاه مصمّمة أزياء فيلمي التجريبي، وهي من إنكلترا. وقعتُ في حبّها من دون مقابلتها إطلاقًا في الحياة الحقيقية. بدأتُ أعتقد أن هناك فرصة للحصول على علاقة حب عبر وسيط ألعاب الفيديو المرتبطة بشبكة "إنترنت". عندها، أجريتُ أبحاثًا، واكتشفت أن هناك أناسًا متزوّجين الآن في الحياة الحقيقية تقابلوا في هذا النوع من العوالم الافتراضية. لذا، قلتُ إنّه سيكون مُثيرًا للاهتمام استخدام هذا المعطى ليس كخيالٍ علمي، بل كجانب من الحياة الحقيقية، كشيء غريب لكنه ينتمي إلى واقعنا.
(*) وكيف كان الجانب الفني للعمل في هذا الجزء الافتراضي؟ هل كان صعبًا؟
ـ كان لطيفًا جدًا، لأنه يشكل استثمارًا لتجربتي السابقة، الصعبة جدًا. هذه المرة، أردتُ أن أفعل شيئًا يمكن أن يفهمه الجميع. فعلت هذا في مختبرٍ صغير في روما، مع مجموعة صغيرة من الشباب لا يتجاوز عددهم 10 أشخاص، خلال عام واحد. كان العمل معهم يشبه العمل الحرفي اليدوي. طويل، لكنّه مريح للغاية.
(*) أكثر ما أعجبني في الفيلم هو أن العالم الافتراضي، الذي بدا غرائبيًا وموحشًا في البداية، أصبح أكثر واقعية وإنسانية في النهاية، وأصبح العالم الحقيقي أغرب من العالم الافتراضي نفسه.
ـ بالضبط. أنا أيضًا أحبّ حقيقة أنك، في النهاية، تشعر بالسكينة والألفة في العالم الافتراضي أكثر من العالم الحقيقي، مع هذا الشيخ الفظّ والشرس. أعتقد أن الممثلين كانوا جيّدين جدًا، خصوصًا في النهاية، فهم قدّموا أداءً مذهلاً. هذا جانب الحكاية الخرافية الذي تحدثّتَ عنه، حيث يبدو هذا الرجل كذئبٍ يطرق باب فريسته.
(*) إذا كنا نريد أن نجد مغزى سياسيًا لشخصية هذا الرجل العجوز، يمكننا رؤيته كرجل محافظ ومتطرّف يميني. أتوافق على هذا؟
ـ هو بالضبط هذا. هو شخص لديه جموح حاد وغريب للحياة، وطاقة سلبية ترمي إلى افتراس الأشياء الجميلة. أدّى دوره باقتدار أليسّاندرو هابير، وهو ممثل سينمائي ومسرحي معروف في إيطاليا، خصوصًا على خشبة المسرح.
(*) موقف مهمٌ آخر من الناحية السياسية: غياب الأب. بطريقة ما، هذا يبدو كالقول إنّ المجتمع يتيم الأب.
ـ بالضبط. أردتُ أيضًا أن أحكي قصّة 3 نساء تُمثّلن 3 أجيال. أعتقد أن فقدان الأب يجلب مقاربة أنثوية للحياة. يعني ذلك بطريقة ما أننا لا نمتلك مرجعًا، ولا يمكنني تخيّل رقم الأب. كما أنّ شخصية الصيدلي العجوز تختزل كلّ ما يمثّل الذكورية السيئة.
(*) أحببتُ كثيرًا أداء ماتيلدا دي أنجليس، الممثلة الشابة التي أدّت دور المراهقة. أحببتُ أيضًا علاقتها بالأم (دوناتيلا فينوكيارو)، حتى في التشابه بينهما على مستوى الملامح.
ـ أنا سعيدٌ بذلك، لأنه من المهم بالنسبة إليّ أن تكون هناك مصداقية لفكرة عائلة من 3 أجيال. في هذا التكوين، يكون المركز شخصية الأم، لكن مركز الفيلم هو الفتاة المراهقة. لكلّ منهما نهج مختلف للحياة. لا يزال لدى الجدة بعض القيم، والأم تعاني لأن ضغط الحياة يدمّرها. أما الفتاة، فتبدأ اكتساب قوّة أكبر، لأنها اعتادت هذا المجتمع أكثر منهما.
(*) الفتاة في طور اكتساب الرّشد أمام أعيننا.
ـ بالتأكيد. إنها تتعلّم القيمة الأخلاقية من خلال التجربة الصعبة التي تجتازها. تجتاحها نزعة كلبية. الشيء الجيد مع جيل الشباب هو أنه قد يكون لديه هذه الإمكانية. جيلنا ترعرع في فترة لم تكن هناك أي إمكانية لإصدار ردّة فعل، والاحتمالات كلّها موصدة. اليوم، يبدو أن هناك المزيد من الاحتمالات للتفاعل الجدلي مع العالم.
بالنسبة إليّ، هم "رأوا" في عالمٍ أكثر إشكالية بكثير منا، لذلك أصبحوا متشائمين. لكن، لهذا أيضًا يمكنهم أن يتطلّعوا إلى الأمام بثقة أكبر. هذا ما حاولت التعبير عنه من خلال الفيلم: هناك دائمًا إمكانية لتغيير الأشياء.
(*) كيف اخترت ماتيلد دي أنجليس؟
ـ كانت عملية الـ"كاستنغ" ضخمة للغاية. اشتغلت بفيلم من قبل، وبدت لي منسجمة للغاية مع الشخصية منذ البداية. لكني رأيتُ 100 فتاة أخرى، وخطوة خطوة، بقيت 3 فتيات مختلفات في النهاية. إحداهنّ مثيرة للاهتمام، لكنها ليست جميلة. الثانية جميلة جدًا، لكن جمالها يحيل على الأميرات، ولم يكن لديها ذلك السحر الخاص الكامن في نظرة ماتيلد.
أعتقد أنها ممثلة رائعة، ستصبح إحدى أكثر الممثّلات موهبة في إيطاليا، في المستقبل.
(*) هل كان صعبًا الحصول على تمويل لهذا الفيلم؟
ـ دائمًا يكون الأمر صعبًا. لكن، في هذه الحالة، لم يكن صعبًا كثيرًا. الحصول على دعم من "صندوق الأفلام الإيطالي" محسوم. منذ تلك اللحظة، باتت الأمور أسهل بكثير. هناك أيضًا حقيقة أن قيمة الممثلين الذين اضطلعوا بالأدوار الرئيسية ساعدت كثيرًا.
(*) أتعتقد أن "صندوق دعم الأفلام الإيطالي" يشتغل بشكل جيد؟
ـ هذا الدعم مهمّ جدًا، وضروري بالنسبة إلى أفلام مثل "يوتوبيا". مدى فعالية اشتغاله يعتمد على الفترة. أحيانًا، يمكن لتغيير الحكومة أن يؤثّر على الأشياء. صعبٌ جدًا إنجاز هذا النوع من السينما الآن في إيطاليا؛ فإما أن تكون دوليًا منذ الانطلاقة، ما يسهِّل الأمور عليك، وهذا ليس متاحًا إلا لمخرجين قليلين ومعروفين، وإما أن تطرق أبواب المهرجانات والأسواق واحدًا تلو الآخر، وهذا ما نفعله الآن عن طريق بيع الفيلم في الهند وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية وغيرها.
(*) أشعر أننا نميل دائمًا، بشأن السينما الإيطالية، إلى مقارنتكم أنتم مخرجي الأجيال الحديثة مع أساطير السينما الإيطالية بشكل قاسٍ للغاية، لأنّه حتى لو كنتَ جيدًا جدًا، فنحن نصل، بشكلٍ غير واعٍ، إلى خلاصة مفادها أنك، مقارنة مع فيسكونتي وأنتونيوني، لست جيدًا كفاية.
ـ (ضحك) هذا يذكّرني بكريستيان دي سيكا، ابن عبقريّ السينما الإيطالية فيتّوريو دي سيكا، وهو ممثل كوميدي معروف في إيطاليا اليوم. يقول دي سيكا الابن: "ماذا يمكنني فعله؟ مهما حاولت وأنجزت، سأبقى دائمًا ابن هذا الرجل العظيم". هذا حالنا أيضًا. آباؤنا عظماء جدًا بالنسبة إلينا. لكن، أعتقد أن شيئًا ما يحدث مع هذا الجيل. ينبغي فقط اكتساب مزيد من النضج، وإنجاز مزيد من الأفلام. لحسن الحظ، هناك بيننا وبين جيل فيسكونتي ودي سيكا وفيلّيني، شيءٌ ما في الوسط يمكننا الردّ عليه.
(*) في تلك الفترة، هناك ميل آخر إلى اختزال السينما الإيطالية في نانّي موريتّي.
ـ إنه مخرج كبير. لكن، بالنسبة إليّ، لم تكن رؤيته الأشياء ذات أهمية دائمًا. أعتقد أن أفضل أفلامه هي تلك المنجزَة في المرحلة الأولى. بالنسبة إلى معظم أفلامه الأخرى، أختلف أحيانًا مع رؤيته للحياة. من جانب معيّن، لا أرى نفسي في أفلامه. لكن، من جهة أخرى، لا تزال هذه الأفلام هي تلك التي نشأتُ معها. أمر غريب: لديه معرفة دقيقة بمجتمع إيطاليا، وهذا النوع من النقد الساخر الذي يعبر أفلامه رائع للغاية.
(*) خصوصية أخرى تعتري استقبال الأفلام الإيطالية: إننا نراها دائمًا بطريقة سياسية، حتى لو لم يكن هذا الجانب مقصودًا من المخرج، الذي يمكنه التعبير عن شيء شخصي لا سياسيا بالضرورة.
ـ هذا صحيح. في حالتي، هذا الفيلم شخصيّ جدًا. لكن، هناك أيضًا بُعد سياسي. أعتقد أني أحبّ السينما بالضبط، لأنها تسمح لي بقول ما أفكّر فيه سياسيًا بخصوص مجتمعي. أحترم الآخرين، ونظرتهم إلى جوهر صناعة الأفلام. لكن، ما يهمّني هو فقط ما يجعلني أفكّر في المجتمع الإيطالي ومشاركة هذه الأفكار مع الآخرين.
(*) ربما يتأتّى هذا أيضًا من حقيقة أن السياسة الإيطالية تتغيّر باستمرار، لكنها لا تتغيّر أبدًا في العمق. إنها كالعبارة المشهورة من "الفهد" (رواية دي لامبيدوزا التي اقتبس عنها فيسكونتي فيلمًا بالعنوان نفسه عام 1963): "ينبغي أن يتبدّل كلّ شيء كي لا يتغيّر أيّ شيء في العمق".
ـ (ضحك). لسوء الحظ. هذه بالضّبط العبارة الخالدة التي تعبّر عن حقيقة الوضع السياسي لإيطاليا، وهو يزداد سوءًا، حيث لا يجلب التغيير المستمر والمتواصل إلا سياسيّين يتبعون مصالحهم الخاصة. لذا، أصبح الإيطاليون عاجزين ومتشائمين جدًا، وأضحوا يعتقدون أن كلّ سياسي فاسد بالضرورة. في النهاية، وبصورة غير لائقة، هذا صحيح، لأننا في إيطاليا لم نغيّر السياسيين فحسب، بل جرّبنا الأحزاب كلّها أيضًا، والأوضاع تزداد سوءًا.
(*) كيف كان استقبال الفيلم في إيطاليا؟
ـ لحسن الحظ، تم توزيع الفيلم بشكل كبير نسبيًا، وأحدث نوعًا من الفضيحة، حيث تمّ حجبه على من هم دون الـ14 عامًا. لكن الجيّد هو أن الجانب الاجتماعي للقصّة ساهم في إعطائه مزيدًا من الشهرة. كانت لدينا آراء نقدية إيجابية. ذهبنا إلى برنامج "بورتا بورتا" المشهور جدًا في إيطاليا، وهو برنامج نقاش لا يختص بالسينما، لكن الفيلم مناسبة للتحدّث عن مشكلة المراهقين وارتباطهم بالعالم الافتراضي. هذا ساهم في ترويج جيّدٍ للفيلم، وهذا ليس متاحًا دائمًا للسينما المستقلّة.
(*) كم عدد النسخ التي وزّعت من الفيلم؟
ـ 100 نسخة. هذا ليس كثيرًا، لكنه ليس سيئًا أيضًا. الموزّع يفكر في 50 نسخة فقط. لكن، بعد تقديم العرض الأول الذي شهد نجاحًا كبيرًا في أسبوع واحد، ضاعفنا العدد، وبدأت صالات السينما تتّصل لبرمجة الفيلم، الذي لا يزال يُعرض في إيطاليا إلى الآن، وما أزال أتلقّى مكالمات من صالات "آرتهاوس" تسعى إلى برمجته.
(*) ما أدهشني هو أن الفيلم لم يعرض في المهرجانات الكبرى. ألم تتقدّم لها؟
ـ كان الفيلم جاهزًا للذهاب إلى "مهرجان روما ـ 2017". لكن، لأنه مُقرّر وصوله إلى الصالات في إبريل/نيسان 2018، قال الموزّع إنه لا يمكن الذهاب إلى روما، لأن الناس سيعتقدون أن الفيلم قديم. استشطت غضباً عندها. كرهتهم حقًا. لكني أصبحت الآن أكثر سعادة بهذا. أعتقد أنها كانت فرصة جيدة مشاهدة الفيلم أولاً في الصالات من قبل عدد أكبر من الناس.