في كتابه "المثقف المغربي بين رهان المعرفة ورهانات السلطة"، اعتبر الشاعر والناقد، صلاح بوسريف، أن المثقف سلطة قائِمَة بذاتِها، وهذه السلطة رمزية، وهي أهمّ من سلطة الجيش والأمن والسلطة المادية بشكل عام.
يفسّر بوسريف تصوّره في حديثه لـ "العربي الجديد" على النحو الآتي: "إذا كانت السلطة المادية تنتقل بين الأشخاص، بحسَب طبيعة المواقع والمناصب فتذهب من يَدٍ إلى أخرى، بمعنى أنَها سلطَة زائلة وتخضع لِمقاييس غالباً ما تكون غير موضوعية، أو للِمصالِح والمَنافِع والولاءاتِ، فإن سُلطة المثقف تتمثل في ما يبتكره من أفكارٍ وخيالاتٍ قد نَتَوَهَّم أنَّها غير ذات أهمية مباشرة في حياتنا قياساً بالأمور المادية الاستهلاكية وعالَم المال والأعْمال".
ويستدرك: "لكن عالَم الاسْتِهلاك والمال والأعمال في جوهره ما هو إلا أفكار، وهو في طبيعته المُؤسَّساتِيَة، يعتمد على (خُبراء)، أي على فكر الإنسان، وعلى ما يمتلكُه من خيالاتٍ لِتَسْلِيع المُجْتَمعاتِ، وتَبْضِيعِها، والانتقال بهذا الإنسان من عَقْل يُفَكِّر ويَنْتَقِد، إلى إنْسانٍ آلَةٍ يُدارُ ويَخْضَع ويَتْبَع، أي ذلك الإنسان المُهادِن الذي يُقْبِل على الأشياء بانكِفاء، ولا يملك سُلطةً في اختياراته، ولا في شكل ونمط الحياة التي يَحْلُم بها، لأنَّه أصبح إنساناً من دون حُلُم".
يوضح الكاتب رأيه: "إن المثقف يكون بحريته وبرأيه، أما الخبير والتقني، فهُما في طبيعتهما أداة ومهنة، ولهذا تستدرجُهُما السلطة إليها دون عناء. من المفترض أن المثقف عَصِيٌّ على الاسْتِدْراج، ويظهر هذا الاستعصاء حين يكون بالمعنى الذي أشَرْتُ إليه؛ أي صاحِبَ أفكارٍ وصاحِبَ مشروع، فهو لا يُبَرِّر، أو يتكلم باسم السلطة مهما كانت هذه السلطة مُغرِيَةً ومُثيرةً، لأنَّه يتكلَّم بلسانه هو وبفكره هو، وهذا ما لَا ترغب فيه السلطة، التي دأبَتْ على أنْ تتكلَّم وتأمُر لا أن تُنْصِت".
إجمالاً، يرى صاحب "رهانات الحداثة" أن سُلْطَة المثقف تبقى "سلطة تُضاهِي، في رمزيّتها، سُلطة الدولة، وكُلّ السلطات التي تَصدر عنها، ولهذا، فالمثقف الذي أدْرَك خَطَر سلْطَتِه اكْتَفَى باسقلاليته، ليس عن الدولة فقط، بل حتَّى عن الحزب الذي كان بدوره يستعمل المثقف لتبرير أفكاره هو، في حين أن المثقف هو مُقْتَرِح أفكار وطرق. فمتى كانت سُلْطَة الدولة والحزب تلتقي مع سُلْطة المثقف الذي لا يفْتَأ ينظر ويتأمَّل ويَقْلِب ويُجَدِّد ويَسْأل ويعيش في جَوٍّ من الشّك والقَلَق الدّائمَين، وهذا هو مَرْبِط الخلاف، بين المثقف والسلطة، ما دامت السلطة تكريساً للمُكتسبات وحِرْصاً على الجواب، مهما كانت طبيعة العَطَب في هذه المُكْتسبات وفي هذا الجواب".
ويرى الناقد والباحث الأكاديمي يحيى بن الوليد أن "المجال الذي يتحرّك فيه المثقف هو إنتاج الوعي أو مضاعفة هذا الوعي كما قال إدوارد سعيد. وبما أن تحرّكاً من هذا النوع يستلزم، ومن قبل المثقف تعريفاً بالأشياء والوقائع والأحداث... فإن هذا التعريف، وبحسه النقدي الملازم، لا معنى له بدون تصريف في المجتمع".
فالخطاب، في منظور ابن الوليد، وحتى يجعل من المجتمع مجالاً له، لا بد من تصريفه في هذا الأخير. ومن هنا منشأ الحاجة إلى آليات توفّـر للمثقف تصريف تعريفه أو تعاريفه. ومن ناحية موازية، تبدو ضرورة وجود علاقة بين هذا المثقف مع (المؤسسة)، ومن منطلقات قد تكون متقاربة أو متنافرة تمضي من الانتساب الجزئي الذكي الذي نعتقد في جدواه إلى التشابك الكلي والطوعي الذي يكون المثقف نفسه أوّل ضحاياه. فمن الجلي، إذن، أن المثقف لا يتحرك في الهواء الطلق، وإنما يتحرك في إطار من بنى مجتمع ولا سيما بنى المجتمع المغربي المفتتة".
وفي ما يتعلق بحاجة المثقف إلى المؤسسة أو العكس، يعتقد ابن الوليد أن "المؤسسة مجمدة ومصمّتة في مقابل المثقف من حيث هو فكر يتحرّك بأشكال مختلفة وفي الوقت ذاته مؤثِّرة بأشكال مختلفة. وهذا التأثير ما جعل مثقفين، بالمغرب، ينوّعون في أساليب الكتابة عبر النشر في الصحافة وإلقاء المحاضرات خارج أسوار الجامعة والقبول بالمشاركة في برامج تلفزية". ويظهر أن ما سلف شكل من أشكال التحرّك من داخل المؤسسة في سياق التعريف والتصريف لخطاب المثقف، حسب ابن الوليد.
ويلاحظ صاحب "الوعي المحلّق" أننا "لم نعد بصدد مؤسسة أو مؤسسات عضوية بالنظر للآليات التفكيكية والتخريبية التي طالت هذه المؤسسات. إضافة إلى اللغة التي أصبحت متيبِّـسة ومتصحِّرة، والتي صار يتكلم بها الزعماء الجدد".
إجمالاً، يرى الكاتب أنه "يصعب تحديد هويات المؤسّسات السياسية والثقافية، المسيطرة على ما ينعت بـ (القوة المحايثة) لمفهوم الحقل كما نظّر له عالم الاجتماع الفرنسي، بيار بورديو. في فترة سابقة كان يسهل تصنيف المثقفين من خلال معيار المؤسسة. أما اليوم فيصعب ذلك بالنظر لتحرّك المثقفين باعتبارهم أفراداً وباعتبارهم خبراء ومستشارين يبيعون منتوجهم. إضافة إلى أن الغالبية من المثقفين صارت مشغولة بـ (هاجس النشر) خارج المغرب هروباً من المؤسسة السائدة التي فرّطت في المثقف كما تنكّر لها هذا الأخير".
المثقف، في تصوّر الكاتبة لطيفة باقا، شخص مستقل عن المؤسسة. تقول ذلك وهي تؤكد أن هذا التصوّر في حد ذاته لا يخلو من طوباوية. فالمؤسسة "قد تكون ذات طبيعة سياسية أو اجتماعية أو حتى ثقافية، حيث نرى المثقف يراقب بعينيه الذكيتين ما يحصل في الأسفل داخل الأحزاب وداخل النقابات وداخل الصحف والجمعيات، وربما أيضاً داخل المؤسسات الاجتماعية المدنية من قبيل مؤسسة الأسرة ومؤسسة الزواج مثلاً".
لكن الوضع، في رأي صاحبة "غرفة فرجينيا وولف"، ليس بهذه المثالية، "خصوصاً إذا ما نظرنا إلى المؤسسة باعتبارها نظاماً مهيكلاً يسمح بتطوّر الحياة الثقافية، ودعم انخراطها العضوي في الحياة العامة".ووفقاً للكاتبة فإن "الوضع الأنسب لمثقف العصر الحالي هو الوضع الذي يجعله يقف في مرتبة وسطى بمعنى الانخراط مع المحافظة على هامش الاستقلالية".
وتضيف: "الفردية أساس جذري في العملية الثقافية، أساس لا ينبغي أن يذوب في ما هو جماعي؛ لأن منطق الجماعة ليس هو منطق الفرد. ومنطق المؤسسة هو منطق الجماعة والوعي الجماعي تاريخياً، فهو يخضع دائماً لحركية وميكانيزم يختلف عن الميكانيزمات التي تحرّك الوعي الفردي". وترى باقا أن "الإشكال الحقيقي القائم ما بين المؤسسة والفرد، وهذا التجاذب المريع الذي يحدث بينهما، يجد تبريره في كون المؤسسة جسداً ثابتاً أما الفرد فكيانٌ متحوّل وحُرّ".