هل كتب سعد الله ونوس هذا المشهد المسرحي في "منمنمات تاريخية" قبل الحرب السورية بعشرين عاماً، أم أن هذا المشهد ليس سوى تأويل للحظة الراهنة العصية على الكتابة؟ في طريقهم إلى دمشق، مرّ التتار بحلب فأحرقوها ودمّروا فيها الإنسان والعمران. كان الموت يطارد ريحانة الحلبية التي هربت إلى دمشق، بعد أن أصابها هول المذابح بالخرس، لتجد هناك المثقف الدمشقي مصلوباً يراقب مدينته تحترق.
صلب رجال الدين المتحالفون مع الغزاة ابن الشرائجي المثقف السوري العقلاني وأحرق التتار دمشق. كيف يمكن للسوريين أن يقرأوا الآن مشهداً كهذا، في زمن أصبحت فيه مشاهد مدنهم المحترقة بضاعة رائجة، فيما سمته الباحثة الإعلامية سوزان مولر بـ"سوق بورنوغرافيا الحرب" التي حوّلت آلام البشر إلى مواد أولية في صناعة التلفزة العالمية.
ربما يحدّق السوريون الآن في ذكرى رحيل سعد الله ونوس في ذلك المشهد، ليبحثوا فيه عن روح المثقف المصلوب التي صرخت قبل ما يقارب العقدين: أن "الحقيقة ليست سوى إبرة في مزبلة". قد يعتقدون أن عبارة كهذه لا ينطق بها سوى أراجوز جريح، يتنقل بين أشلاء الجغرافيا السورية بحثاً عن معنى لن يجده لهذا الخراب.
ما الذي دفع الأراجوز في مسرحية ونوس "الأيام المخمورة" وهو يراقب كيف تفكّكت العائلة السورية ليصرخ "الحقيقة إبرة في مزبلة"؟ كيف تحوّل تاريخ العائلة إلى غرض مسرحي مفقود، إبرة ضاعت في مزابل التاريخ؟ لا، ليست مجرد إبرة مفقودة، هكذا سيفكر السوريون الآن بعد 18 عاماً من رحيله، بل أيقونة ترمز إلى ضياع حكاية الجماعة المشتركة.
إنها ما يقول إن التاريخ أصبح فكرة مستحيلة بعد أن قُتلت السردية الكبرى للجماعة، وتحوّلت إلى معركة هزلية بين الطربوش والقبعة في مشهد كتبه المثقف-المسرحي على تخوم اللحظة العظيمة، لحظة وعي الموت الوشيك التي يعتبرها الناقد جيمس أولني العامل الجوهري وراء كتابة سيرة الذات، والتي يقول الشاعر والمسرحي ويليام بتلر ييتس إنها ترميز لحياة المبدع. لحظة رغم تراجيديتها تمسرحت في بؤرة الشعرية المسرحية الجديدة التي احترق ونّوس فيها، شعرية التهكم التي يتكثف فيها وجع الذات الكاتبة وهي تتأمل في أحوال الجماعة.
لم يكن تأمّل المسرحي السوري هذا في أحوال جماعته بعيداً عن الشرط الإنساني الكوني على مشارف الألفية الثالثة، بل كان جدلاً معه وقراءة للتحوّلات الكبرى التي أفضى إليها في اشتباك فريد من نوعه بين الخاص والعام.
تجلّى ذلك الشرط الكوني كما وصفه هومي بابا في "أن السؤال الثقافي أصبح بالنسبة لكل مبدعي العالم يتجسّد في فضاءات النهاية والما بعد، حيث أصبحنا في نهاية القرن العشرين محكومين بمصطلحات النهايات ورغبة التجاوز، كأن وجودنا اليوم مشروط بتلك الرغبة الغامضة بالنجاة والتجاوز ونحن نعيش على حدود الحاضر، حيث لا توجد تسمية مناسبة لهذا الشرط غير تلك البادئة الإشكالية "الما بعد"، ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية، ما بعد الرأسمالية، ما بعد..".
هنا عبّرت تجربة ونّوس المسرحية عن خصوصية ومشكلة المبدع العربي في مواجهة هذا الواقع الثقافي الكوني الجديد. فإذا كان المبدع والمثقف في الغرب قد توفر له سياق نظري وثقافي للتعبير عن أزمته وإحساسه بنهايات حقبة وبدايات أخرى من خلال النظريات التي عبّرت عن نفسها ببادئة الـ"ما بعد"، فإن المثقف والمبدع العربي بدا مفتقداً لهذا الترف.
ففي واقع ثقافة متداعية وإحساس عميق بالأزمة وبنهايات عصر وبداية آخر، كان على مبدع كونّوس أن يواجه التحوّل دون مرجعية ثقافية أو نظرية يمكن لها أن توفر أفقاً أو معنى ما للنهايات كما هو الحال في وضع المبدع الغربي، أو أن يجترح في لحظته العظيمة فوق صليبه دراماتورجيا تستكشف المستقبل.
هل كان المستقبل الذي رآه ونوس في لحظته تلك قبل أكثر من عشرين عاماً مخيفاً إلى درجة جعلته يطلق في أمسية دمشقية من آذار 1996 صرخته الشهيرة: "إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ"؟ لم يكن السوريون في الحقيقة على مدى تاريخهم بحاجة إلى زرقاء اليمامة لتجيبهم عن هذا السؤال الوجودي كما هم اليوم وهم يكافحون ضد ملحمة الخراب التي كتب ونوس عن سراب مآلاتها.
أيّ تناص رهيب هذا الذي يكشفه المسرح بين النّص والمستقبل؟ هل نحن بحاجة إلى قراءة التأويلات المعاصرة للنصوص الشكسبيرية لمواجهة هذا السؤال؟ أليست حلب التي هربت منها ريحانة سعد الله ونوس، والتي تحترق الآن ببشرها وشجرها وحجرها وتاريخها الثقافي، هي ذاتها المدينة التي كتب عنها شكسبير في عطيل ومكبث قبل خمسة قرون.
أليست حلب ذات المدينة التي يرى الناقد بيتر ستاليبراس أنها كانت في مسرح شكسبير فضاءً سحرياً أدهش المخيلة الإليزابيثية بثرائه وبتعدديته الثقافية والعرقية والدينية؟ ومن هو لير شكسبير سوى السوري المفجوع اليوم بذاته وبالعالم في مشهد العاصفة الطويل؟
لا ينبغي أن تمرّ ذكرى ونّوس دون أن يفكر السوريون كيف قدّم إجابته على السؤال الذي حكم علاقة التاريخ بالمسرح. إنه فشل مشروع الحداثة الذي اغتيل ليترك هذه المجتمعات تواجه العواصف عارية من أي حكاية أو سردية كبرى توحّدها فلا تجد ما يستر عريها غير النكوص إلى سرديات صغرى وما قبل مدنية تمزّق كياناتها. إنه ذلك الحلم الذي صرخ المسرحي السوري من أعالي صليبه كي لا نضيّعه.
* كاتب وباحث سوري