11 نوفمبر 2024
المتقاعد الشرير
يعيش السبعيني المتقاعد، الشرير على ذمّة كورونا، أجمل أيام العمر منذ تقاعده قبل خمس سنوات، ذلك اليوم المشؤوم غير المبارك، حين فقد اتزانه النفسي، وانقلبت حياته في لحظة رأساً على عقب، واختلف شكلها إلى الأبد، لا سيما أنه كان يشغل منصباً حكومياً رفيعاً، ويحمل لقب عطوفة، ما هيّأ له بناء شبكة علاقاتٍ اجتماعيةٍ واسعة، مكّنته من تصدّر المناسبات الاجتماعية من جاهات وعطوات، يوجد فيها عدد كبير من الأثرياء الوجهاء وأصحاب المناصب العليا، وزراء وأمناء وزارات ومديرين عامين وأعيان ونواب وصحافيين وطامحين إلى الصعود الاجتماعي. يمكن وصف حياته السابقة بالجميلة والهانئة والمتحققة مع عائلة مزهوة بكبيرها، أولاد فخورون بمنجز أبيهم وزوجة محسودة من النساء، بسبب تألق زوجها وتاج رأسها الذي ترفض تقديم الوجبة قبل وصول عطوفته، وتحرص على متابعة متطلبات مظهره الأنيق، من عطور فاخرة وقمصان ماركات أصلية وربطات عنق إيطالية، وتختار له البدلات اللائقة بموقعه الاجتماعي البارز، وتتفهم غيابه الطويل عن البيت، بسبب التزاماته الكثيرة.
لم يملّ قط من الصخب، سنوات حافلة من الأحداث السريعة والواجبات الاجتماعية والمناسبات التي لا تنتهي، والموبايل الذي لا يتوقف عن الرنين، والبيت المكتظ يومياً بالزوار من المتملقين وماسحي الجوخ، إضافة إلى أصحاب الحاجات المختلفة من توظيف وتعليم وعلاج، اعتاد أن يستقبل الناس بحفاوةٍ ومحبةٍ وبشاشةٍ ساهمت في زيادة رصيده من الشعبية، بسبب تواضعه الجمّ، وقربه من الناس، وحبهم له والتفافهم حوله، وحرصهم على دعوته في كل المناسبات. وما إن صدر قرار مجلس الوزراء بإحالته إلى التقاعد بسبب الشيخوخة، حتى اختلف كل شيء، ودّعه السائق المخلص الذي رافقه سنوات طويلة، واعداً إياه بعدم الانقطاع عنه، حافظ الرجل على وعده بضعة أشهر، وسرعان ما اختفى مثل البقية.
توافد زملاء سابقون ومرؤوسون وأصدقاء وجيران إلى بيته، حال سماعهم النبأ، ردّدوا جملاً تقليدية، مثل "الله يعطيك العافية" و"الحمد لله على السلامة"، من باب جبر الخاطر لمن انتهت سنوات خدمته، وهو الذي يبالغ عادة، وتحت تأثير الصدمة، في المكابرة، ويُفرط في التعبير عن التفاؤل. وينفي أي مشاعر حزن وفقد وخيبة وخوف من فكرة التقاعد باعتبارها نهاية المطاف. يرفض الاستسلام، ويصرّ على أنه ما زال في عز العطاء، ولن يوقفه تقاعد عن مقارعة الحياة وتحقيق إنجازات جديدة. يقلّ بل ويتلاشى، مع مرور الأيام، عدد الزوار، وينصرف كلٌّ إلى شأنه، ليواجه من حلت عليه لعنة التقاعد الحقيقية، كما هي مجرّدة قاسية، تستدعي مقداراً من الواقعية، وتقبل حقائق الحياة بصدر رحب وعقل متفتح، كونها مرحلةً حتميةً، لا مناص من عبورها في مشوار الحياة. ولكن صاحبنا ظل على عناده، وتحول إلى شخصٍ محبط ساخط مقيت، تتبرّم منه الزوجة التي لم تعد مزهوةً من حضوره الثقيل في البيت ويتجنّب الأولاد مجالسته طويلاً، كي لا يضطروا إلى سماع الحكايات المكرّرة ذاتها عن أيام العز التي ولّت إلى غير رجعة. لذلك لا يخفي بهجته الكبيرة، خصوصاً عندما يستمع إلى الإيجاز الصحافي لوزير الصحة الذي تعشقه النساء لأسباب غير مفهومة بالنسبة له، بل لا يتوانى في التعبير عن شماتةٍ وتشفٍّ، وهو يراقب الطابور الطويل أمام بقالة الحي، طابوراً لطيفاً يضم كل أطياف المجتمع، من أطباء ومهندسين ومحامين ورجال أعمال من المحجورين في بيوتهم، وهم ينتظرون دورهم بامتثالٍ مطلق، وتختفي ملامحهم المذعورة خلف الكمّامات. يشبك يديه خلف ظهره المنحني، يمسك عصاه مختالاً بينهم، ويصرخ بهم مثل رئيس ورشة متسلط، حاثّاً إياهم على الالتزام بمسافة المترين، ويقرّعهم على عدم الالتزام بتعليمات التباعد الاجتماعي التي أقرّتها الحكومة الرشيدة!
توافد زملاء سابقون ومرؤوسون وأصدقاء وجيران إلى بيته، حال سماعهم النبأ، ردّدوا جملاً تقليدية، مثل "الله يعطيك العافية" و"الحمد لله على السلامة"، من باب جبر الخاطر لمن انتهت سنوات خدمته، وهو الذي يبالغ عادة، وتحت تأثير الصدمة، في المكابرة، ويُفرط في التعبير عن التفاؤل. وينفي أي مشاعر حزن وفقد وخيبة وخوف من فكرة التقاعد باعتبارها نهاية المطاف. يرفض الاستسلام، ويصرّ على أنه ما زال في عز العطاء، ولن يوقفه تقاعد عن مقارعة الحياة وتحقيق إنجازات جديدة. يقلّ بل ويتلاشى، مع مرور الأيام، عدد الزوار، وينصرف كلٌّ إلى شأنه، ليواجه من حلت عليه لعنة التقاعد الحقيقية، كما هي مجرّدة قاسية، تستدعي مقداراً من الواقعية، وتقبل حقائق الحياة بصدر رحب وعقل متفتح، كونها مرحلةً حتميةً، لا مناص من عبورها في مشوار الحياة. ولكن صاحبنا ظل على عناده، وتحول إلى شخصٍ محبط ساخط مقيت، تتبرّم منه الزوجة التي لم تعد مزهوةً من حضوره الثقيل في البيت ويتجنّب الأولاد مجالسته طويلاً، كي لا يضطروا إلى سماع الحكايات المكرّرة ذاتها عن أيام العز التي ولّت إلى غير رجعة. لذلك لا يخفي بهجته الكبيرة، خصوصاً عندما يستمع إلى الإيجاز الصحافي لوزير الصحة الذي تعشقه النساء لأسباب غير مفهومة بالنسبة له، بل لا يتوانى في التعبير عن شماتةٍ وتشفٍّ، وهو يراقب الطابور الطويل أمام بقالة الحي، طابوراً لطيفاً يضم كل أطياف المجتمع، من أطباء ومهندسين ومحامين ورجال أعمال من المحجورين في بيوتهم، وهم ينتظرون دورهم بامتثالٍ مطلق، وتختفي ملامحهم المذعورة خلف الكمّامات. يشبك يديه خلف ظهره المنحني، يمسك عصاه مختالاً بينهم، ويصرخ بهم مثل رئيس ورشة متسلط، حاثّاً إياهم على الالتزام بمسافة المترين، ويقرّعهم على عدم الالتزام بتعليمات التباعد الاجتماعي التي أقرّتها الحكومة الرشيدة!