آخر فصول هذه الأزمة تمثّلت في إعلان صحيفة "أخبار الجمهورية" عن التوقف عن الصدور يوم أمس الأربعاء، 11 تشرين الأول/ أكتوبر. فبعد 25 سنة من تأسيسها قررت الصحيفة الأسبوعية التوقف، إذ كان عددها أمس الأخير.
أسباب الاحتجاب عن الصدور في شكل ورقي تعود إلى الأزمة التي تعيشها الصحافة الورقية في تونس، والتي تراجع عدد إصداراتها منذ سنة 2011 إلى 55 إصداراً بعد أن كان أكثر من 250 إصداراً قبل ذلك.
واعتبر صاحب "أخبار الجمهورية" ومؤسسها، الإعلامي المنصف بن مراد، أن الصحيفة لا يمكنها الصمود وقد اختارت النأي بنفسها عن الخضوع لما سماه "المال الأسود" أو لمال الأحزاب واختارت الاستقلالية منهجاً لها، فلم تستطع الحفاظ على وجودها في ظل صمت الحكومة التونسية عن تنظيم الإعلانات التجارية الرسمية التي كانت تديرها وكالة الاتصال الخارجي وكانت بمثابة شريان الحياة للعديد من الصحف التونسية.
وسيدفع إغلاق صحيفة "أخبار الجمهورية" بالعاملين فيها إلى البطالة الإجبارية في سوق تشغيلية محدودة بطبعها لخريجي كليات الإعلام في تونس، ما عدا قلة منهم ممن سيتحولون إلى العمل فيها في صيغة جديدة، حيث ستصبح الصحيفة مجلة شهرية.
المشهد الإعلامي التونسي شهد هذا الأسبوع أيضاً قراراً آخر من هذا النوع. فقد قرّرت إدارة قناة "فيرست تي في" الخاصة التوقف عن البث لأسباب مادية.
والقناة المملوكة لرجل الأعمال قيس المبروك والتي انطلقت في البث على القمر الاصطناعي نايل سات سنة 2014، لم تنجح في فرض نفسها كمنافس جدي في سوق التلفزيونات التونسية الذي تحتكر النسبة الأكبر من الإعلانات التجارية فيه قناتا "الحوار التونسي" و"نسمة تي في". في حين تعاني القنوات الأخرى صعوبات مالية كبرى أدت إلى عدم خلاص العاملين فيها لأشهر وهو ما قد يؤدي إلى إغلاق البعض منها في الأشهر القليلة المقبلة، وفقاً للمتابعين للشأن الإعلامي التونسي.
وقبل هاتين المؤسستين، توقفت إذاعات مثل "الشعانبي أف أم" و"الحرية أف أم" عن البث. كما قامت قناة "التاسعة" الخاصة بإلغاء نشرة الأنباء فيها رغم استقدامها لرئيس تحرير جديد هو المكي هلال الذي كان أحد الوجوه البارزة في عدة قنوات تلفزيونية عربية ودولية آخرها قناة "بي بي سي" البريطانية. لكنّ إدارة القناة ولأسباب مادية قررت إيقاف النشرة بعد سنة فقط من بثها بحجّة الكلفة المالية الباهظة لإعداد مثل هذه النشرات، الأمر الذي أحال عديد الصحافيين إلى البطالة الإجبارية لتزداد وضعيتهم المالية صعوبة.
ولطالما أشارت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين إلى الوضع المالي للعديد في تقاريرها السنوية، حيث سجلت في الفترة الممتدة من 3 أيار/ مايو 2016 والى حدود 3 أيار/ مايو 2017 أكثر من 180 حالة طرد للصحافيين من عملهم وسجلت عدم حصول 480 صحافياً على أجورهم بشكل منتظم.
وقد يعرف هذا الوضع تعقيداتٍ إضافيّة خصوصاً أمام الأزمة التي تعيشها واحدة من كبرى المؤسسات الإعلامية في تونس، أي "دار الصباح" التي تُصدر ثلاث صحف هي "الصباح" و"لوطون" و"الصباح الأسبوعي". فهذه المؤسسة وبعد مصادرتها من مالكها محمد صخر الماطري، صهر الرئيس التونسي المخلوع، تعيش وضعاً مالياً متأزّماً، جعل الحكومة التونسية تفكر في التفويت (أي التصريف الكلي أو الجزئي لملك ما) فيها لرجال أعمال تونسيين. لكن عمليّة التفويت تصطدم برفض النقابة الوطنية للصحافيين والنقابة العامة للإعلام (المنضوية تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل، كبرى المنظمات النقابية التونسية) اللتين تشترطان المحافظة على الخط التحريري لدار الصباح وضمان حقوق العاملين فيها المادية والمعنوية في كل عملية تفويت، وهو الأمر الذي قد لا يشجع المستثمرين على خوض غمار شراء هذه الدار.
الأمر نفسه ينطبق على إذاعة "شمس أف أم"، المصادرة هي الأخرى، والتي كانت ملكيتها تعود لسيرين بن علي، ابنة الرئيس التونسي المخلوع، وتمّت مصادرتها لتصبح من ملكية الدولة التونسية، إلا أن المصادرة طرحت الكثير من السجالات حول طرق إدارتها، خصوصاً أمام الصعوبات المالية التي عاشتها، مما دفع العاملين فيها من صحافيين وتقنيين إلى خوض أكثر من إضراب لدفع الحكومات التونسية المتعاقبة إلى البحث عن حل جذري لها. لكنّ النقابات وضعت نفس الشروط في عملية التفويت في دار الصباح، وهو ما قد لا يعجل بعملية بيعها.
ويُرجع رئيس جمعية مديري الصحف ومدير مجلة "حقائق"، الطيب الزهار، هذه الوضعية الاقتصادية الصعبة إلى تراجع مداخيل الصحف من المبيعات وتراجع الإعلانات التجارية خاصة الرسمية منها، مطالباً الحكومة التونسية بالتدخل العاجل وإنشاء هيكل حكومي يتولى توزيع الإعلانات التجارية الرسمية بشكل عادل يعتمد مقاييس علمية مضبوطة بعيدًا عن المزاجية أو تصفية الحسابات السياسية مثلما كانت تفعل وكالة الاتصال الخارجي التي كانت تتولى مسؤولية توزيع الإعلانات التجارية الرسمية قبل الثورة التونسية.
ويتفق الزهار مع عضو الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) هشام السنوسي في هذا المخرج، فيرى الأخير أنّ غياب الإرادة الرسمية في تنظيم قطاع قيس نسب الاستماع والمشاهدة يؤثر على المردود الماليّ للإذاعات والتلفزيونات. فما تنشره بعض المكاتب المختصة في قيس نسب الاستماع والمشاهدة يوجّه عملية توزيع الإعلانات التجارية. ويضيف "لكن عملية القيس لا تحظى بالمصداقية التامة وهي خاضعة لتأثيرات سياسية لدى بعض المكاتب التي تقدم أرقاماً تجعل بعض القنوات والمحطات الإذاعية تستأثر بالجزء الأكبر من الإعلانات التجارية في حين لا يصل أخرى إلا بعض الفتات الذي لا يمكّنها من الاستمرارية".
وقد تزيد الصعوبات المالية وعدم وضوح رؤى الحكومة التونسية في التعامل مع الإعلام والإرادة الحقيقية فى إصلاح ما يعتريه من هنات تنظيمية، الواقع الإعلامي في تونس تعقيداً، وقد تدفع في اتجاه غلق المؤسسات الإعلامية، وبالتالي إحالة الكثير من العاملين في القطاع إلى البطالة الإجبارية، وهو ما تخشاه النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين.
ويرى نقيب الصحافيين التونسيين، ناجي البغوري، أنّ التهديد الحقيقي لحرية الصحافة في تونس هو هشاشة الوضعية الاقتصادية للعاملين فيه، وتدفق المال الفاسد الذي قد يكون مدخلاً للعودة بالإعلام التونسي إلى مربع الاستبداد الأول الذي تمّ القطع معه بفضل ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011. واستغرب البغوري وجود قنوات تلفزيونية لا تبث إعلانات تجارية لكنها مع ذلك تستمر في البث منذ سنوات، وهو ما قد يوحي بوجود تمويلات لها من "المال الفاسد" ومن البعض الذين يريدون احتكار الإعلام لخدمة أجنداتهم الخاصة.
من جهتها، تنفي الحكومة التونسية كل الاتهامات الموجهة لها، وتؤكد حرصها على حرية الصحافة، وكذلك من خلال بعض الخطوات العملية التي شرعت الحكومة التونسية في إنجازها، من خلال قرارات لفائدة الصحافة الورقية ومن ضمنها الإعفاء من بعض الديون للصناديق الاجتماعية وكذلك إنشاء هيكل يجمع كل الفاعلين في قطاع الصحافة الورقية يتولى توزيع الإعلانات التجارية الرسمية، مثلما جاء على لسان رئيس الحكومة يوسف الشاهد في خطاب نيل الثقة لحكومته أمام البرلمان التونسي يوم 14 أيلول/ سبتمبر الماضي.
وفي انتظار تحقق ذلك، يبدو أن الوضعية الاقتصادية للإعلام تزداد سوءاً خاصة وأن مؤسسة مثل دار "لا برس" الحكومية التي تصدر صحيفتين يوميتين "لا برس" و"الصحافة اليوم" تعاني هي الأخرى من صعوبات مالية كبرى. فقد تراجعت مداخيلها من الإعلانات التجارية إلى أكثر من النصف، وهو الأمر ذاته الذي تعاني منه الإذاعة التونسية (إذاعة رسمية فيها 10 محطات إذاعية منها 5 محطات إقليمية) والتلفزيون الرسمي التونسي (قناتان تلفزيونيتان). فهاتان المؤسستان تراجعت مداخيلهما من الإعلانات التجارية والميزانية التى تمكّنهم منها الحكومة التونسية بأكثر من 80 بالمائة منها لخلاص أجور العاملين فيها ولا يبقى لميزانية الإنتاج إلا القليل الذي لا يمكنها من رفع قدرتها التنافسية، لذلك تجدها لا تحظى بنسب استماع ومشاهدة كبرى مثل المحطات والقنوات الإذاعية والتلفزيونية الخاصة.
لذا، الإعلام التونسي فى مفترق الطرق. فإما الاستمرارية مع ضمان الحرية في التعاطي مع الواقع التونسي أو الاندثار الكلي للبعض منها أو الخضوع إلى المال الفاسد والابتزاز الحزبي، وهي لحظة مفصلية قد تؤدي إلى انتكاسة كبرى لهذا المشهد الإعلامي التعددي.