المؤتمر الصهيوني الـ37: أبعد من قصة المفتي

16 نوفمبر 2015
مجزرة كفر قاسم 1956، سامية حلبي (2012)
+ الخط -

في الوقت الذي انشغل فيه العالم بالفرية/الحماقة التي أطلقها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ضد المفتي الفلسطيني الحاج أمين الحسيني (فحواها أن الزعيم النازي أدولف هتلر لم ينو إبادة اليهود بل إبعادهم من ألمانيا فقط، وأن المفتي الحسيني هو الذي نصحه بارتكاب المحرقة)، ضمن الخطاب الذي ألقاه أمام "المؤتمر الصهيوني العالمي" الـ37 الذي عقد في القدس المحتلة في الفترة بين 20 و22 تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، فقد تلهّى الكثيرون عن وقائع هذا المؤتمر ومداولاته الواشية بجوهر المشروع الإسرائيلي- الصهيوني الكولونيالي في فلسطين التاريخية.

يتمثل جوهر المشروع الإسرائيلي وفق ما انعكس في مجريات المؤتمر- في توكيد أن هناك "شعباً يهودياً واحداً ودولة يهودية واحدة" وأنه "يجب العمل معًا لتوحيد الشعب اليهودي وضمان أمن الدولة اليهودية". كما يتمثل في تعزيز السيطرة الكولونيالية في مناطق 1967 من خلال الاستيطان والسيطرة على الأرض تحقيقًا لشعار "أرض أكثر، عرب أقل".

ويعتبر "المؤتمر الصهيوني العالمي" الهيئة الأعلى من حيث إقرار أيديولوجيا الهستدروت الصهيونية العالمية وسياستها العامة.

يعقد المؤتمر مرة كل خمس سنوات، في القدس، بحضور أكثر من ألفي ناشط صهيوني من ما يزيد عن 30 دولة في شتى أنحاء العالم، بالإضافة إلى مندوبي جميع الأحزاب الإسرائيلية الصهيونية ومندوبي سائر المنظمات الصهيونية العالمية.

في هذا المؤتمر الأخير، جرى التشديد على الوسائل المطلوبة للصهيونية كسبيل لانتشارها، كما جرى الاتفاق عليها منذ قرارات "المؤتمر الصهيوني" الأول الذي عقد في بازل (سويسرا) سنة 1897 بزعامة مؤسس هذه الحركة ثيودور هرتسل.

ولقد ورد ضمن تلك القرارات، علاوة على أن هدف الصهيونية هو "إقامة وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين، أن ذلك يتم بالوسائل التالية: 1- تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين؛ 2- تنظيم اليهود (في العالم) وربطهم بالحركة الصهيونية؛ 3- اتخاذ السبل والتدابير للحصول على تأييد دول العالم لهذا الهدف الصهيوني (بقصد إعطائه شرعية دولية).

يتسق هذا مع ما تقوم به الهستدروت الصهيونية العالمية من نشاطات في أوساط جميع اليهود في العالم، وترمي أساسًا إلى ترسيخ أن إسرائيل هي جوهر هويّتهم، وجوهر أمنهم "لأنه من دون إسرائيل قوية لن يكون أمن لليهود في أي نقطة في العالم".


"الدولة اليهودية"

يتسق هذا، أيضاً، مع ما تقوم به حكومات نتنياهو من سن قوانين ومن إجراءات ميدانية منذ عودتها إلى سدّة الحكم سنة 2009 تحت شعار أنه ما تزال ثمة حاجة إلى "الاستمرار في ترسيخ الصهيونية داخل إسرائيل وخارجها"، كون الصراع ما انفك دائرًا حول "الاعتراف بالدولة اليهودية" حتى يغدو "وجودها بديهيًا".

ويشكل هذا كله خلفية لمجموعة لا حصر لها من إجراءات إدارية وقوانين ترمي إلى ترسيخ "الدولة اليهودية" سواء إزاء المواطنين الفلسطينيين في الداخل، أو إزاء كل من يستأنف على الدعاوى الصهيونية حتى في جهاز التربية والتعليم والمؤسسة الأكاديمية والحقلين الثقافي والفني ومنظمات المجتمع المدني، وذلك بموازاة التشديد على مطلب الاعتراف بـ "إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي" أمام الجانب الفلسطيني.

وتشهد إسرائيل في الآونة الأخيرة محاولات متزايدة من جانب وزارة الثقافة الإسرائيلية لتعزيز "الإنتاج الفني الصهيوني" من خلال تقديم جوائز متعددة مثل "أحسن إبداع فني صهيوني" أو "أفضل فيلم صهيوني".

وبرأي أحد الباحثين النقديين هناك عدة تفسيرات يمكن التفكير فيها بهذا الشأن، يظل في مقدمها تفسيران اثنان: الأول، كون هذه الجوائز دليل إضافي على التطرّف المتزايد داخل الحكومة والمجتمع الإسرائيليين، وكونها مثالاً على إنكار الوجود الفلسطيني في المجال الثقافي، مثلما هي الحال في المجال السياسي.

أما الثاني، فهو النظر إلى هذه الجوائز بكونها نتيجة خوف وزارة الثقافة الإسرائيلية من ازدياد الكتابة والإنتاج الفني في المجتمع المدني الإسرائيلي حول موضوعات تتناول النكبة الفلسطينية، والترحيل الجماعي، ومنع عودة اللاجئين، والاحتلال العسكري المستمر منذ 1967.

وبحسب التفسير الثاني، فإن هذه الأصوات وبرغم كونها أقلية في المجتمع والخطاب الإسرائيليين، تشكّل خطراً على المؤسسة والرواية الصهيونيتين، ولذلك تحاول الحكومة الإسرائيلية إسكات هذه الأصوات بالتوازي مع فتح المجال للحد الأقصى أمام الأصوات الصهيونية الـ "كاشير" (الحلال)، أي التي تؤيد الرواية الرسمية والمؤسسة الحاكمة الآن.

وانعكس أبرز مظهر لتأجيج الحملة الرامية إلى صهينة الحياة العامة قبل فترة وجيزة في تدخل ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية في تركيبة لجنة التحكيم لـ"جائزة إسرائيل للأدب والبحث الأدبي والسينما" وإسقاط عضوية ثلاثة من أعضائها، بعد أن كانوا باشروا عملهم في إطار هذه اللجنة.

وكان وزير التربية والتعليم الإسرائيلي السابق هو الذي عيّن أعضاء هذه اللجنة كما هو متبع، لكنه في هذه الأثناء استقال بعد انسحاب حزبه من الحكومة وفي أعقاب استقالته تسلم نتنياهو نفسه حقيبة التربية والتعليم الوزارية. ووجّهت وزارة التربية والتعليم رسائل إلى كل من أعضاء لجنة التحكيم تبلغهم فيها بقرار إقصائهم من عضوية اللجنة من دون إبداء أي أسباب لذلك.

وفي وقت لاحق، أكد نتنياهو قراره هذا، لكن ليس في بيان حكومي رسمي ولا بصورة صريحة، بل بموقف كتبه على صفحته الخاصة في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، يوم 11 شباط/ فبراير 2015 قال فيه: "طوال الأعوام الماضية، جرى تعيين أعضاء في لجنة التحكيم لجائزة إسرائيل من بين عناصر تحمل مواقف متطرفة، ومن بينها عناصر معادية للصهيونية أيضاً، مثل أشخاص يؤيدون رفض الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي.. وهذا الوضع ينبغي تغييره"!

وعاد نتنياهو وتطرّق إلى الموضوع مرة أخرى، على صفحته الخاصة في فيسبوك أيضاً في اليوم التالي، 12 شباط/ فبراير، فقال إن "لجان التحكيم في مجالات الثقافة تحولت إلى ملعب خاص لليسار المتطرف، المعادي للصهيونية، الداعم للفلسطينيين والداعي إلى رفض تأدية الخدمة العسكرية، ولا يجوز أن تسيطر المواقف الداعمة للفلسطينيين على جائزة إسرائيل في بعض المجالات".


"حقوق اليهود في فلسطين"

يُلاحظ في الآونة الأخيرة أن هناك تشديدًا غير مسبوق على تكريس صيغة "حقوق اليهود في فلسطين" وعلى تأجيجها صُلب الخطاب الإسرائيلي الرسمي، باعتبار أن استبطان هذه الحقوق يشكل عنصرًا حيويًا في سياق تصعيد الحملة الرامية إلى ما يسمى "كيّ وعي" الفلسطينيين أولاً، ووعي العالم كله ثانيًا، بحقيقة فحواها أن القضية الفلسطينية لم تكن محصلة عملية استعمار كولونيالية.

وبالتالي فإن حلها لا يُفترض أن يستند إلى تجاوز الآثار التدميرية التي ترتبت على هذه العملية، أو إلى ما تثيره من مسائل أخلاقية، وإنما إلى حل وسط أو تسوية سياسية تنطلق أساسًا من قاعدة أن الصراع هو مجرّد نزاع حدودي منحصر في خطوط 1967، وأن الحق اليهودي في فلسطين ليس أدنى مرتبة من الحق الفلسطيني فيها، إن لم يكن سابقًا عليه أصلاً.

وفي واقع الأمر، فإن مثل هذا الخطاب يدغدغ أيضًا وعي الرأي العام الإسرائيلي بأطيافه كافة، لا سيما وأنه في معظمه ما زال خاضعًا لاستحواذ الرواية الصهيونية بشأن جذور الصراع، والتي ترى أن "احتلال الأرض في فلسطين" كان فريضة تبرّر عدم تحمل أي مسؤولية عن المشكلات التي نجمت عنه، ولا سيما مشكلة "التطهير العرقي" التي أفضت إلى نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.

هنا لا بُد من الإشارة إلى أن "احتلال البلد" لم يكن شعارًا للصهيونية اليمينية وحسب، وإنما كان أيضا شعارًا للصهيونية "اليسارية" التي تدعّي الاعتدال. وبرأي مفكرين نقديين كثيرين فإن أهمية هذه الأخيرة (أي الصهيونية "اليسارية")، من عدة نواح ودلالات، كانت تفوق كثيرًا أهمية الصهيونية العمومية واليمينية، وذلك لأنها وفّرت درعًا أيديولوجيًا من خلال طرحها الصهيونية على أنها حركة اشتراكية تتبنى المساواة، وتتطلع بشدة إلى التعاون والسلام مع السكان العرب.

فالصهيونية اليسارية ("هشومير هتسعير" مثلاً) هي التي اقترحت إقامة دولة ثنائية القومية، كما أن تيارا صهيونيا يساريا آخر، وإن كان ضئيلا، هو "بريت شالوم" (ميثاق السلام) اقترح من ضمن أشياء أخرى تقييد الهجرة اليهودية إلى فلسطين من خلال التوصل إلى اتفاق مع الشعب العربي الفلسطيني، فيما عرض الحزب المركزي في الحركة الصهيونية (حزب "مباي") بعد حرب حزيران/ يونيو 1967 التوصل إلى تسوية إقليمية مع الفلسطينيين.

لكن لا بُدّ من ذكر أن "هشومير هتسعير" كان في فترة الانتداب البريطاني يؤيد دولة ثنائية القومية بشرط إجراء ثلاثة تعديلات "بسيطة" هي: أولا، أن لا تقوم مثل هذه الدولة ثنائية القومية إلا بعد أن يتحقق وجود أغلبية يهودية في البلد (فلسطين)؛ ثانيا، أن تستمر سلطة الانتداب البريطانية عشرين سنة أخرى؛ ثالثا، في حال عدم موافقة الفلسطينيين على ذلك أن تكون الدول العظمى مخولة بأن تفرض عليهم ذلك بالقوة.

ووفقًا لما يشدّد عليه أحد هؤلاء المفكرين فإن الدور الأكثر أهمية للصهيونية "اليسارية" تجسّد في إقناع الجزء التقدمي- الليبرالي- الاشتراكي في صفوف الجمهور اليهودي بأن الصهيونية هي أيديولوجيا عادلة، وبأن إسرائيل محاطة بأعداء غير مستعدين للاعتراف بذلك.

وهذا الإقناع نجح على ما يبدو بشكل يفوق كل التوقعات، وهو ما يشكل أيضًا أحد الأسباب في كون الجمهور الليبرالي في إسرائيل يسلم ويقبل بهذا الطراز من الاحتلال منذ 68 عامًا، إلى درجة أن مفكرًا إسرائيليًا بارزًا من اليسار صرّح قبل مدة بأن احتلال البلد حتى العام 1948 "كان ضروريا وحيويا، ولذا فإنه عادل أيضا، وقد جسّد حق اليهود في الاستقلال وتقرير المصير".

وقبل تصريح هذا المفكر بأعوام كثيرة، قال مارتن بوبر، وهو أحد كبار "الملهمين" لما يسمى بـ "الصهيونية المعتدلة"، في سياق تبرير ما ألحقته الصهيونية بالسكان الفلسطينيين في نطاق تطبيق مشروعها الاستيطاني الكولونيالي في فلسطين، إنه "لا وجود لحياة من دون تدمير حياة أخرى. وإذا ما أمعنا النظر فسنجد أن كل واحد منا يسلب في كل لحظة شخصا آخر حيز حياته". وأضاف: "في فترة مشروعنا الاستيطاني، الذي كان عمليا احتلالاً لكن بطرق سلمية، لم يقصد العقلاء منا أن يبقوا أبرياء في نظر أنفسهم في حرب الوجود القومية التي نخوضها.

وبما أننا جئنا (إلى فلسطين) كي نؤمن مكانا لأجيالنا المقبلة، فقد كنا مضطرين إلى تقليص حيّز الأجيال المقبلة من الشعب العربي". ونظرًا إلى كون المشروع الاستيطاني الصهيوني مشروعًا ما انفكت شهيته مفتوحة على أكثر ما يمكن من الأرض، وعلى أقل ما يمكن من العرب، فإن تواتر "خطاب حقوق اليهود في فلسطين" وتأجيجه من شأنهما أن يشفّا عن واقع أن نية تحقيق سلام أو مصالحة مع الشعب الفلسطيني غير مدرجة في جدول أعمال دولة الاحتلال لا الآن ولا في المستقبل المنظور.


(كاتب فلسطيني/ عكّا)

المساهمون