الليلة التي مات فيها الإعلام كما نعرفه

11 نوفمبر 2016
صدمة ما بعد الانتخابات (كارل كورت/Getty)
+ الخط -
لا الشاشات الكبيرة والمتطورة، ولا التغطية المتواصلة المرهقة، ولا عشرات الأيام التي انقضت في التحضير لليلة الكبيرة التي سينتخب فيها رئيس جديد لأميركا، نجحت في إنقاذ الإعلام الأميركي من مأساته. ليلة الثامن ــ التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني طويت الصفحة الأخيرة من التعامل التقليدي للإعلام الأميركي مع المواطن، مع تفكيره وتقلّباته.

اليوم، وبعدما ذهبت هيلاري كلينتون إلى بيتها خائبة، وبدأ دونالد ترامب بتوضيب حقيبته للتوجّه إلى البيت الأبيض متوّجاً رئيساً لأعظم دولة في العالم، يعيد الإعلام الأميركي تعريف أولوياته، وطريقة عمله. والأهمّ، يعيد عالم الإحصاءات واستطلاعات الرأي، النظر في طريقة سريعة للعودة إلى الحياة، بعدما أُعلنت وفاته مباشرة على الهواء.

تعود القصة في بداياتها إلى سنة ونصف. أبريل/نيسان 2015 تحديداً عندما أعلنت المرشحة عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون انطلاق حملتها الانتخابية. ثمّ جاء انتخاب ترامب، كمرشّح آخر للحزب الجمهوري، ليأخذ اللعبة إلى منحى أكثر متعة وسخرية، و... سذاجة.

ركّزت كلينتون في حملتها كاملة على السخرية من ترامب، وهو ما فعله معها الإعلام. جارتْها أكثر من مئة مؤسسة إعلامية أميركية "عريقة" في تحويل ترامب إلى مادة يومية للسخرية. نذكر طبعاً وبشكل أساسي "نيويورك تايمز"، و"هافنغتون بوست"، و"واشنطن بوست"، و"سي أن أن"... لكن كلينتون نفسها قرّرت توسيع هامش الهجوم، ليطاول مناصري ترامب،
الذين وصفتهم ما لا يقل عن ثلاث مرات بـ "المقرفين والمشينين" مستخدمة كلمة DEPLORABLE في أكثر من مناظرة، وأكثر من لقاء. أعاد الإعلام استخدام الكلمة نفسها، في استهزاء واضح من جمهور ترامب، ما خلق كما بدا واضحاً، ردة فعل عكسية.
وبين حملة التنمّر والسخرية وتحقير جمهور ترامب، وبين إحصاءات فشلت في التقاط نبض الشارع الحقيقي، كانت تخرج علينا عناوين حاسمة تبلغنا بفوز كلينتون "الأكيد لكن ليس الكبير"، وفق عنوان هافنغتون بوست مثلاً قبل أسابيع من الانتخابات.

استند الإعلام في إحصاءات كثيرة، وعلى استطلاعات للرأي، انقلبت عليه، وعلى كلينتون وعلى جمهورها. صبيحة يوم الثلاثاء الانتخابي الكبير، وبينما كان جمهور ترامب يشد الهمم للوصول بمرشحه إلى مراكز الاقتراع، كانت "نيويورك تايمز" مثلاً تبلغنا أن لكلينتون حظوظاً تصل إلى "84 في المئة بالفوز بهذه المعركة". لكن خابت الصحيفة، وخابت أرقامها، وهو ما يفسّر تأخر الصحيفة نفسها في إعلان فوز ترامب إلى حين إعلان كلينتون "التسليم بالنتيجة".
هذا التخبّط بدا واضحاً على القنوات. تلعثم المذيعين، مظاهر الدهشة على وجوههم، وكلامهم. جون كينغ مثلاً على "سي أن أن" وبينما بدا فخوراً بشاشته الكبيرة في الاستوديو التي تنقل الأرقام أولاً بأوّل، صعقه اللون الأحمر (لون الحزب الجمهوري) الذي غطى الخارطة الأميركية أمامه ليقول بنبرة يائسة وتعيسة: "كل كلامنا في الأسابيع الماضية لم يكن مبنياً على حقائق".



كل التغطية المحضّرة سلفاً، بدت منتمية إلى زمن آخر. كل التذكير بكلام ترامب العنصري، بكل ماضيه، وماضي عائلته بدا كلاماً في الهواء. حتى ستيفن كولبرت، وهو أحد أشهر الإعلاميين الأميركيين، فشل في مجاراة الصدمة على شاشة "سي بي أس". ماذا يقول وكل الكلام وكل سيناريو الحلقة، كان محضّراً لنتيجة مختلفة تماماً؟
طيّب، ماذ الذي حصل بالضبط؟ هل فشل الإعلام إلى هذا الحدّ بمقاربة الواقع على الأرض؟ الجواب الأول البديهي هو نعم. بدا الإعلام الاميركي، مكتفياً بما يعرفه، وبما يرغب به: الابنة البارّة للنظام الأميركي التقليدي، ستفوز. ستبقى اللعبة على ما هي عليه منذ أكثر من ستة عقود، أما "المهرّج" القادم من برامج تلفزيون الواقع، والثراء الفاحش، والتصريحات الغبية، فلا مكان له. وجاءت الأرقام كلها لتؤكد هذه الرواية. تؤكدها حتى في أسوأ أيام كلينتون الانتخابية، كعشية تسريبات "ويكيليكس" التي أثّرت في شعبيّتها مثلاً.

في مقاله يطرح الناقد الإعلامي في "نيويورك تايمز" جيم روتنبيرغ، سلسلة أسئلة حول فشل الإعلام الأميركي في التقاط حس الشارع الأميركي المعقّد. لكن يبقى سؤاله المحوري "هل كان الإعلام ليتعاطى بشكل مختلف مع اللعبة الانتخابية لو كانت أرقام الإحصاءات مختلفة؟". ثم يجيب بنفسه: "نعم، لو كانت الأرقام مختلفة لكنا نزلنا أكثر إلى الشارع، لكُنّا حاولنا فهم كيف يفكّر جمهور ترامب".

ما الذي حصل إذاً؟ كيف فشل الجميع، الجميع حرفياً من الإعلام إلى الإحصاءات وصولاً إلى
أكثر المتفائلين من المحللين المناصرين لترامب، برؤية هذا الفوز المأساوي لترامب؟ حتى الجمهوريون فشلوا في الإجابة على هذا السؤال. "المهرج البرتقالي"، "المتحرّش الفخور" و"الذكوري الوقح" وفق الأوصاف التي التصقت بترامب في الإعلام قلب كل مقاييس اللعبة. ليس اللعبة السياسية فحسب، بل لعبة الإعلام برمّته. أعاد هذا الفوز تعريف دور الإعلام، في أميركا والعالم. أليس دوره نقل هموم الشارع وتوجّساته وأحلامه؟ لم يفعل الإعلام الأميركي ذلك، بل لنقُل نَقَل لنا الجزء الذي يريده من هذا الشارع، الجزء اللامع والبراق الذي يرفض القيم المقيتة التي يحملها ترامب، للعالم وسكانه. لم يصل إلى الريف، ولا إلى العمّال البيض الذين لا يحملون الشهادات الجامعية، والذين قلبوا هم فقط اللعبة برمّتها. حدّد هؤلاء مصير بلدهم ومعه مصير العالم في السنوات الأربع المقبلة. هؤلاء كلهم لم نرهم يوماً واحداً في الإعلام، ولا حتى على قناة "فوكس نيوز" الداعمة للجمهوريين.

وماذا عن صناعة الرأي العام؟ هنا أيضاً فشل الإعلام، أو ربما انقلبت لعبته عليه وعلى
مرشّحته المفضلة هيلاري كلينتون. التحريض اليومي الذي وصل حدّ الشتم والسخرية اللاذعة، حوّل دونالد ترامب إلى مستضعف. الخطاب الشعبوي الذي يتفاخر الإعلام التقليدي أنّه يتعالى عليه، وأنه حكر على مواقع التواصل الاجتماعي، نجح في حثّ الأميركيين على الالتفاف حول الرجل الذي يحاربه الجميع: من الإعلام إلى وول ستريت، وصولاً حتى المؤثّر الأميركي الأكبر أي هوليوود. الجميع في وجه الرجل ــ الرئيس. كل هذا التكتّل، كان يقابله كلام آخر على مواقع التواصل. مناصرو ترامب، يدافعون عنه هناك، يتحدثون عن واقعيّته، ويعيدوننا إلى هفوات وأخطاء و"جرائم" كلينتون الداخلية والخارجية. هذا الكلام الذي لم نقرأه أو نشاهده في أي مكان آخر.

وماذا عن الإحصائيات؟ ستانلي غريبيرغ أحد العاملين في مجال الإحصائيات لصالح الحزب الديمقراطي اعترف قائلاً: "كانت مجرد فوضى". مايك ميرفي المحلل الجمهوري اختصر المشهد كله على "أم أس أن بي سي" قائلاً: "الليلة ماتت الإحصائيات Tonight data died". بينما اختصرت منى شلبي في "الغارديان" البريطانية، المشهد معلنة: "علينا التوقف عن التعامل مع الإحصائيات كما نتعامل مع نشرة الأرصاد الجوية... هذه الأخيرة تعتمد على عناصر علمية مرتبطة بالطبيعة، أما الإحصائيات فمرتبطة بالطبيعة البشرية، وهذه متقلبة تتأثر بعوامل كثيرة وتتغير". وهو الفشل نفسه الذي شاهدناه في الإعلام الأوروبي وشركات إحصائه قبيل التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي brexit. كل الأرقام كانت تقول إنّ البريطانيين لن يفعلوها، لكن مجدداً فعلها المواطنون، وخيّبت الطبيعة البشرية وتقلباتها، كل الأرقام.

طويت الصفحة، ولا شكّ أن غرف التحرير والأخبار تزدحم اليوم بالاجتماعات مع الصحافيين والمحررين: "لماذا فشلنا؟" سيسأل هؤلاء لأيام كثيرة مقبلة.



المساهمون