يبدو أنّ الإقبال على تعلّم اللغة العربيّة في الولايات المتحدة الأميركيّة، يدفع بكثيرين إلى التوقّف عنده. في ما يأتي نموذج ووصف للحال لا سيّما في جنوب كاليفورنيا.
اللغة العربيّة هي اللغة الأجنبية الأسرع انتشاراً في الولايات المتحدة الأميركية، هذا ما تبيّنه بيانات صادرة عن مركز الإحصاء الأميركي أواخر العام الماضي، إذ قفز عدد الناطقين باللغة العربيّة في البلاد لأكثر من 29 في المائة بين عامَي 2010 و2014. صحيح أنّ انتشار اللغة بهذه السرعة يعود إلى أسباب تتعلق بتزايد توافد المهاجرين من بلدان الشرق الأوسط، إلا أنّ الإقبال على تعلّمها أيضاً بات لافتاً، ليس فقط من قبل الأميركيين المسلمين أو ذوي الأصول العربيّة.
يرى الخبراء أنّ الاهتمام باللغة العربيّة ازداد منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 بالإضافة إلى كلّ الحوادث المستجدة حتى يومنا، وذلك لسببَين توضحهما استشارية تدريب وتأهيل مدرّسي اللغة العربيّة إيمان هاشم، وهما "اتجاه الحكومة الأميركية إلى زيادة دعم برامج تعليم اللغة العربيّة من جهة، ومن أخرى رغبة الأميركيين في فهم هذه اللغة والتعرّف على الثقافة العربيّة وكذلك الإسلامية".
تجدر الإشارة إلى أنّ هاشم هي مسؤولة برنامج اللغات غير الشائعة في شبكة "مشروع كاليفورنيا العالمي للغات" وإحدى الشخصيات الفاعلة في مجال إدخال اللغة العربيّة إلى برامج تعليم اللغات في المدارس الحكومية في جنوب كاليفورنيا. تقول: "هنا في الولايات المتحدة، خطان متوازيان ومتناطحان حول تعليم اللغات الأجنبية. بالنسبة إلى الخط الأوّل، فإنّ اللغة الإنكليزية هي اللغة التي يجب أن تسود، وعلى الجميع تعلّمها. أمّا الخط الآخر، فيؤمن بأنّ تعلم لغات عدّة يوسّع مدارك الإنسان وآفاقه، ويساعده على تقبّل الآخر وفهم الثقافات الأخرى".
لا تتوفّر إحصاءات دقيقة ومحدّثة حول أعداد المدارس الأميركية الحكومية التي تدرّس اللغة العربيّة، ولا أعداد التلاميذ المنتسبين إلى برامجها. فتشرح هاشم أنّ "برامج تعليم اللغة في المدارس راحت تشهد تطورات جديدة في كلّ يوم، وتتوسّع بصورة كبيرة لا سيّما خلال السنوات الأخيرة، لكن لا مؤسسات متخصصة لإجراء دراسات ميدانية محدّثة حول هذا الموضوع".
هكذا كانت البداية
تروي هاشم لـ "العربي الجديد" كيف بدأ حلم إدخال اللغة العربيّة إلى برامج تعليم اللغات في المدارس يتحقق تدريجياً، إذ إنّها من خلال انخراطها في الشبكة تمكّنت من الحصول على التدريبات التي أهلتها لاحقاً لتدريب غيرها من مدرّسات اللغة ومدرّسيها. تقول: "في أوائل عام 2000 بدأ قطاع التعليم في مقاطعة لوس أنجليس يبدي اهتماماً بالتوسّع في تبنّي برامج تعليم اللغات. فبدأنا اجتماعاتنا مع المسؤولين وطرحنا قضية توسيع دائرة تعليم اللغات، أي ألا يقتصر على الإسبانية والفرنسية والألمانية، بل أن يشمل أيضاً اللغات الأقل شيوعاً ومنها العربيّة. في ذلك الوقت، لم تكن تتوفّر شهادة تأهيل لمدرّسي اللغة العربيّة، تمكّنهم من تدريس اللغة في المدارس الحكومية. وهنا برزت فكرة إيجاد برنامج بديل وموازٍ لهذه الشهادة".
هكذا بدأ العمل مع المدرّسات والمدرّسين في المدارس العربيّة والإسلامية الخاصة، وراحت تنظَّم دورات خاصة لتأهيلهم. وبفضل تكاتف الجهود ودعم وزارة التعليم، توسّعت برامج التأهيل هذه، ووضعت معايير امتحان التقييم، وحدّد المستوى المطلوب لدى مدرّس اللغة العربيّة.
في سياق متّصل، كان تشجيع للمدرّسين العرب الذين يدرّسون اللغات الأجنبية الأخرى كالفرنسية مثلاً، والذين هم بأكثرهم من أصول مغربية، على التقدّم للامتحان التأهيلي لنيل شهادة تدريس اللغة العربيّة إلى جانب الفرنسية. وهذا بالفعل ما قام به عدد من هؤلاء في المدارس والجامعات الأميركية، الأمر الذي ساهم في انتشار تعليم اللغة العربيّة بشكل أوسع وتقبّل إدارات المدارس لها بصورة أكبر.
ومسألة تبنّي مدرسة حكومية ما لبرنامج اللغة العربيّة يعتمد على عدد من العوامل، منها رغبة إدارة المدرسة وتقبّل قطاع التعليم في المنطقة والدعم المادي ورغبة التلاميذ وأهاليهم في البرنامج. قد تكون ولايتا ميشيغان وميرلاند من أولى الولايات الأميركية التي اعتمدت مدارسها برنامج تعليم اللغة العربيّة، إلا أنّ القضية لا تتعلق بحجم التجمّع السكاني العربي في المنطقة بقدر ما ترتبط بانفتاح العقلية التي تحكم قطاع التعليم فيها.
المنهاج والمصادر التعليمية
قد تكون قضية المنهاج والمصادر التعليمية من أبرز القضايا التي يهتمّ بها المدرّسون ويبدون رغبة في تبادل الآراء حولها. نور جندلي أنشأت من جهتها، برنامج اللغة العربيّة في ولاية أريزونا قبل تسعة أعوام. تتّحدث إلى "العربي الجديد" على هامش مؤتمر عقده مجلس مدرّسي اللغة العربيّة في جنوب كاليفورنيا، وتشير إلى أنّ "المؤتمرات وورش التدريب تتيح لنا الفرصة لعرض تجاربنا وتعديل الأساليب التي نتّبعها في التدريس. كذلك فإنّنا نشارك بعضنا بعضاً في المصادر التعليمية وتبادل الأفكار والتقنيات. وهذا كلّه من شأنه أن يخدم مصلحة تدريس اللغة العربيّة في الولايات المتحدة".
تقول جندلي إنّ "المصادر التعليمية لم تكن متوفّرة في البداية، من هنا أطلق المدرّسون والمدرّسات مبادرات أدّت إلى إرساء الأسس لمناهج تدريس اللغة. وقد ساهم العمل الجماعي كثيراً في إثراء العملية التعليمية على نطاق الولايات المتحدة ككلّ".
وفيما يرى بعض المدرّسين أنّ ثمّة ضرورة لإيجاد منهاج موحّد عبر الولايات المتحدة، يرى خبراء أنّ مدرّس اللغة يجب أن يملك القدرة على وضع المنهاج الملائم لتلاميذه يؤهلهم للتفاعل مع الحياة اليومية. فتقول هاشم إنّ "لا منهاج واحداً لتدريس اللغة العربيّة في مختلف المراحل الدراسية، بل تقع مسؤولية إعداد المناسب على المدرّس نفسه. هو بدوره يختار المواد التعليمية المناسبة لتلاميذه مع مراعاة عدد من المعايير". تضيف هاشم أنّ "المنهاج ليس فقط الكتاب. المنهاج يكمن في عدد من الأمور: إلى أين نريد أن نصل بالتلميذ؟ ما الذي يستطيع القيام به؟ بالإضافة إلى مستوى كفاءاته اللغوية ونوع التقييم الذي أقوم به كمدرّس والموارد التعليمية التي أحتاج إليها. ونحن من خلال تدريب المدرّسين، نعمل على كل هذه النقاط. في البداية، زوّدنا المدرّسين بمواد تعليمية، وكلّ منهم طوّرها وعدّلها بمعرفته وبناء على احتياجات تلاميذه. وهذه هي الطريقة العلمية السليمة".
التأهيل والإعداد الكافي
ثمّة إجماع على أنّ كون الشخص من أصول عربيّة لا يعني أنّه قادر على تدريس اللغة، بل يتوجّب على المدرّس أن يمتلك معرفة بأساليب التعليم وفهم نظام المدارس الأميركية وكذلك إتقان اللغة العربية وأصولها. وتختلف المؤهلات والمعايير المطلوبة من مدرّس اللغة من ولاية إلى أخرى. فتشترط بعض الولايات على المدرّس اجتياز امتحانات معيّنة أو الحصول على شهادات خاصة، بينما تكتفي أخرى بمجرّد تقييم لمستوى اللغة لديه، الأمر الذي قد لا يجعل تدريس اللغة العربيّة في المستوى المطلوب أحياناً.
هشام جنان مدرّس لغة عربيّة من منطقة دالاس في تكساس، يرى أنّ "ثمّة ضرورة لتوحيد المقاييس في منح تراخيص تدريس اللغة العربيّة على مستوى الولايات المتحدة"، مشدداً لـ "العربي الجديد" على عدم قدرة كلّ ناطق باللغة العربية على تدريسها. ويتمنّى "توفّر مؤسسة تهتم بشؤون مدرّسي اللغة العربيّة على مستوى الولايات المتحدة، إذ لا يوجد سوى مؤسسة واحدة وهي المجلس الأميركي لمدرّسي اللغات الأجنبية، الذي يضمّ تحت مظلته مجموعة لجان لتعليم اللغات من بينها المجموعة الخاصة بتعليم اللغة العربيّة". بالنسبة إلى جنان، فإنّ "هذه اللجان تفتقر إلى القوة أو النفوذ لاتخاذ القرارات، أو خلق البرامج، أو جمع البيانات المتعلقة في هذا المجال".
وكان جنان وزميلته تمارا حداد قد حضرا من ولاية تكساس للقاء المسؤولين في مجلس مدرّسي اللغة العربيّة لجنوب كاليفورنيا، للاستفادة من تجربتهم، لا سيما وأنّهما يعملان على محاكاة التجربة وتأسيس مجلس على غراره في ولايتهما.
التعليم الإلكتروني
إلى ذلك، تتعدّد النماذج والأساليب في تدريس اللغة العربيّة لتلاميذ المدارس، ومن بينها التعليم الإلكتروني. سناء جويجاتي من توليدو في ولاية أوهايو، اتجهت إلى تدريس اللغة عبر شبكة الإنترنت في عام 2009، وهي اليوم تدرّب المدرّسين في هذا المجال. تقول لـ "العربي الجديد" إنّ "تصميم المواد التعليمية على الإنترنت يختلف عن الكتب وغيرها من الطرق التقليدية. قد تتشابه المواد في محتواها، لكنّ عرضها وتدريسها إلكترونياً يختلفان تماماً". وتشرح: "عليّ التأكد من أنّ التلميذ في الجهة المقابلة، الجالس أمام شاشته، قادر على استيعاب ما أشرحه. وذلك من خلال مجموعة من النشاطات التي يقوم بها مستخدماً التطبيقات التكنولوجية المختلفة. كذلك فإنّنا نعتمد على طريقة تقييم الأداء المتكامل".
حبّ وشغف للتعلّم
على الرغم من مواجهتهم تحديات وضغوطات كثيرة أثناء تأديتهم "رسالتهم"، إلا أنّ المدرّسين يرون أنّها سرعان ما تتلاشى حين يلمسون ثمار جهودهم. كذلك فإنّ ازدياد الإقبال على اللغة العربيّة من قبل غير العرب في الآونة الأخيرة، يعطيهم دفعاً معنوياً ويشعرهم بأهمية ما يؤدّونه.
تقول حداد لـ "العربي الجديد": "لقد تفاجأنا بالكمّ الهائل من التلاميذ الذين يرغبون في الانضمام إلى برنامجنا، فقد فاقت أعدادهم قدراتنا. بدأنا برنامجنا قبل خمس سنوات في منطقة دالاس مع الصف السابع، وحدّدنا سعة الصف بـ 25 تلميذاً. لكنّ الأعداد زادت كثيراً في وقت لاحق، وامتدّت الصفوف لتشمل المراحل الدراسية كافة".
من جهتها، تتحدّث جندلي عن حبّ التلاميذ لصفوف العربيّة، "فأنا ألمس لديهم رغبة قوية في تعلم الثقافة العربية. هي تثير اهتماهم. ويرون أنّ صفوف اللغة العربيّة تضج بالحيوية وبعيدة عن الجمود، فهي لا تعتمد على الكتب والنصوص بقدر اعتمادها على التشارك".
ويرى جنان أنّ الهدف من نشر اللغة العربيّة هو "تقريب المسافات وكسر الحاجز بين الشرق والغرب"، مشيراً إلى أنّ "الحلم هو تعميم تعليم اللغة العربيّة في المدارس الحكومية الأميركية كافة، من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية. وأنا فخور جداً لأنّ قطاع التعليم في منطقتي ذو رؤية، إذ بدأ بتعليم العربيّة في المرحلة الثانوية واليوم يغطّي كل المراحل".
المدارس الخاصة
من جهة أخرى، تختلف المدارس الخاصة التي تتبنى برنامج تعليم اللغة العربيّة عن تلك الحكومية، إذ إنّها في الغالب مدارس إسلامية يقوم منهاجها على تعليم اللغة العربيّة والدين الإسلامي جنباً إلى جنب. وتلاميذها هم من أبناء المسلمين والعرب الأميركيين.
مدرسة "الأفق الجديد" في مدينة إيرفاين في جنوب كاليفورنيا، إحدى أبرز المدارس الإسلامية الابتدائية الخاصة على مستوى الولايات المتحدة، وهي حاصلة على وسام تميّز وزارة التربية والتعليم الأميركية. تشير مديرة مرحلة الروضة فيها، هناء أنصار، إلى أنّ "أطفال العرب الأميركيين لا يتعرضون للغة العربيّة كفاية، ومهمتنا هي تحبيبهم بها وتقريبهم منها. هدف مدرستنا واضح، وهو ترسيخ إحساس التلميذ بكيانه كمسلم وأميركي. فهذه هي أرضه وحياته كلها هنا".
يُذكر أنّه بخلاف المدارس الحكومية التي تعلم اللغة العربيّة بمعزل عن الدين، تركّز المدارس العربية والإسلامية الخاصة على الدين من خلال التركيز على معاني القرآن الكريم.
وتوضح أنصار لـ "العربي الجديد" أنّ منهاج المدارس الخاصة في الغالب هو واحد وضعته هيئات معيّنة. على سبيل المثال، فإنّ منهاج مدارس "الأفق الجديد" موضوع من قبل معهد التعليم العربي والإسلامي في جنوب كاليفورنيا. تضيف أنّه "على الرغم من المنهاج الموحّد لكل الفصول الدراسية، إلا أنّ المدرّس لا يعتمد على ذلك فقط، بل عليه تطوير المادة التعليمية وتنويعها باستمرار من أجل ترغيب التلميذ بها وإثارة التشويق لديه". وتتابع أنّ "من عام إلى آخر يختلف التلاميذ، ومن عمر إلى آخر يختلف تجاوب هؤلاء مع المدرّس. بالتالي علينا مراعاة كل هذه العناصر عند عرضنا للمادة والأساليب التي نستخدمها".