اللعنة إنها فلسطين مجدداً

16 نوفمبر 2015
(هي الذاكرة التي يقبض عليها أحمد كالجمر)
+ الخط -

تصطادني الذاكرة عندما أنظر إلى الصور التي تخرج علينا من فلسطين وتعود بي إلى لحظة الانفجار الأولى، تلك اللحظة التي ولّدت النكبة. وولدت الصدمة التي نعيشها ونتوارثها بالذاكرة الفردية والجماعية. سواء شئت أم أبيت فإنني ورثت الذاكرة كما ورثت لون العينين.

اللعنة إنها فلسطين مجدداً "ألا يمكنكم أن تروها؟ ألا يمكنكم أن تشعروا بها... إنها في الهواء من حولنا، لا أستطيع أن أتحمل هذا الضغط أكثر... فليرتل أحدكم صلاة... كلاب صيد تلاحقني. أطفال المدارس يقبعون في السجون. قطة سوداء تقطع الدرب أمامي. وأفكر أن كل يوم سيكون يومي الأخير"*.

تطل علينا صور جديدة قبل أن تبرد صور الشهداء والجرحى. أحاول أن أحفظ الأسماء. أدقق في الصور والأشرطة. لا أريدهم أن يعبروا بدون حِداد. فالحِداد هو "ملء الأحياء للفراغ الذي يتركه موتانا خلفهم". يحتجزون الجثث لمنعنا من الحداد الجمعي.

تحررنا، ولو للحظات، صور شابات وشباب مبتسمين. تنقض عليّ ابتساماتهم، وتترك قشعريرتها على مساماتي. أتذوق ابتساماتهم المحرمة التي تلمسني وأشعر بصقيع المنفى. المنفي ليس من لا يستطيع العودة فقط، بل هو الذي لا يستطيع العيش في وطن أسطورة لم نخترعها نحن.

أكره اللغة العربية عندما تخرج من فم المحقق وهو يصرخ في وجه أحمد مناصرة ابن الـ 13 عاماً. تصبح اللغة العربية أمواساً حادة يمررها المحقق فوق طبلتي أذني كلما سمعته يصرخ بها ببشاعة. كيف يمكن للغة بهذا الجمال أن تكتسب كل هذا القبح بين أنيابه؟!

أعود لابتسامات الشباب والشابات في الصور، من شفاههم خرجت لغتي. يكبر أحمد ويصغر الوطن. ما أقسى الصور وما أتفه الكلمات. "مش متذكر" يقول أحمد للمحقق. هي الذاكرة إذن، هي الذاكرة التي يقبض عليها أحمد كالجمر.

أمدّ أصابعي لأمسد شعر أحمد الصغير عبر الشاشة. في الصباح مؤتمر صحافي آخر وسؤال عن أحمد ورفاقه في الأمم المتحدة "ندين ونشجب" يقول الناطق الرسمي، وأحيانا يبخل علينا حتى بـ"الإدانة والشجب".

في إحدى الصحف اليمينية الأميركية تشكو الصحافية "تحيّز بعض وسائل الإعلام الأميركية تجاه الفلسطينيين". أقرأ العنوان مرتين، هل أخطأت الجريدة أم تهت في اللغة، كما أتيه في الشوارع؟

إنه المرض الذي لن يصدقني أحد، إن قلت إنه يعاودني كلما عدت إلى فلسطين. لأنني أرفض/ لا أستطيع تذكر أسماء الشوارع المكتوبة على اللافتات. أسماء تمجّد مُستعمراً نسي أن الأساطير ليست تاريخاً، فصدقها وأرادنا أن نقبل الأيادي شاكرين مدرسة "التاريخ".

أعود إلى لحظة "الانفجار" التي لم تخلق الكون بل نكبة. ألم تضع عصابات الهاغانا وغيرها الخطة "دالت" والتي قامت بموجبها بتطهير فلسطين عرقياً وتهجير أغلب أهلها الذين ما زالوا في بلدان اللجوء والمنفى؟ ألم يقل دافيد بن غوريون في خطابه أمام اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية عام 1938 "أنا أؤيد الترحيل القسري، ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي". هل نحن، اليوم، أمام خطة "دالت" جديدة؟ هل انتهت الخطة "دالت" أصلاً!؟

أدقق في الصور التي تصطادني لتتحول الأشياء فيها إلى نطفة تولد منها إنسانيتنا كلما خطونا خطوة جديدة على درب تحرير الذات.


(كاتبة فلسطينية/ نيويورك)

* مقطع من أغنية الفنانة الأميركية من أصول أفريقية نينا سيمون "ميسيسيبي غاددام".

المساهمون