اللجوء السوري في تونس.. قصص المعاناة والحنين

10 مارس 2015
تصل أعداد السوريين بتونس إلى نحو 4 آلاف (Getty)
+ الخط -
"لا أحد سعيداً خارج وطنه.. نحن مستعدون للعودة بمجرد استقرار الأوضاع في سورية.. صوت الرصاص المدوي ما يزال في أذنيّ.. خفت على أولادي.. خفت أن يموتوا وأنا عاجزة عن القيام بأي شيء.. في حمص بقينا للجوع وطبخت الأعشاب، قلّعت الزرع بيدي لأطعم أطفالي، صحيح نحن بين أهلنا في تونس، ولكن هناك في حمص ذكرياتنا وبيوتنا التي نهبت أمام أعيننا". بهذه الكلمات التي تكشف مرارة كبيرة تحدثت نادية سليمان، وهي واحدة من بين مئات السوريات اللاجئات في تونس.

ونادية سيدة في عقدها الخامس، هربت من جحيم الحرب في سورية لتستقر رفقة أولادها في حي التضامن، أكثر الأحياء شعبية وفقرا في تونس العاصمة، في مسكن متواضع بالقرب من سوق لبيع الخضر وفي مكان يعرف بكثافته السكانية العالية.

عملية البحث عن اللاجئين السوريين في تونس، لم تكن بالمهمة العسيرة، نظراً إلى أعدادهم الكبيرة، وأغلبهم توافدوا مباشرة بعد اندلاع المعارك في سورية وانتشروا في العديد من الأحياء.. كحي التحرير وحي التضامن، لانخفاض تكاليف الإيجار نسبيا، فهي تتراوح بين 150 و300 دولار، أما الميسورون منهم فقد فضلوا الاستقرار في المنازه وحي النصر، وهي من الأحياء الراقية والتي تصل قيمة الإيجارات فيها إلى 500 و1000 دولار.

أصبحت بعض الأحياء في حي التضامن تعرف بحي السوريين، حيث تتجمع بعض العائلات ويدرس الأبناء في المدارس التونسية، أغلبهم تأقلم مع الجيران الجدد، وبعضهم يحاول التغلب على صعوبات المعيشة وتكاليف الحياة التي يعانيها التونسيون أنفسهم، فما بالك باللاجئين السوريين.

وفي المقابل لم تكن عملية إقناع بعضهم بالحديث معنا بالمهمة السهلة، نظرا إلى التخوّفات الكبيرة التي أبدوها خشية أن يتم ترحيلهم أو أن تطاولهم بعض الجماعات المتشددة دينيا، خاصة أن حي التضامن يعرف بوجود عدد كبير من المتشددين ممن يسهلون سفر الشباب إلى سورية، كما كانت لدى بعضهم الآخر مخاوف من أبناء عشيرته من أن يروه في وضع مزر، وقد طلبوا أن لا تكون اللقاءات مصورة، فاستجبنا لرغباتهم. 

تؤكد السيدة نادية لـ"العربي الجديد" أنهم من عائلة معروفة في سورية، وزوجها كان طبيب أسنان لديه عيادة خاصة، لكنه الآن يعاني المرض، وقد وجدناه طريح الفراش، وهذا تقريبا نفس حال ابنها البالغ من العمر 17 سنة، والذي يحتاج إلى عملية في المعدة، وفق تعبيرها.

نادية لديها 12 ولدا، 6 منهم متزوجون، والبقية ما زالوا تحت رعايتها، كان أغلبهم يدرسون في الجامعات، وبرغم تفوقهم في الدراسة أجبرتهم الحرب على الانقطاع عنها، باستثناء طفلة عمرها تسع سنوات تدرس في مدرسة تونسية في حي التضامن.

عائلة تفرّقت

تقول نادية: "لا أعرف حفيدتي، فابني عالق على الحدود السورية التركية، وتعاني عائلته من نقص الأغذية، ولم يتمكن من اللحاق بنا ولا العودة إلى سورية بسبب قلة المال وأجواء الحرب، نحن عاجزون عن التكفل بمصاريف سفره حاليا، وأمنيتي أن يأتي إلى تونس، أما بناتي المتزوجات فقد تفرقن، كل واحدة في بلد.. منهن من قصدت مصر وهناك من توجهت إلى الأردن ولبنان، لقد مضى كل في حال سبيله، والعائلة تشتتت...".

تعود الذاكرة بالسيدة نادية إلى الوراء فتقول: "لقد حوصرنا لمدة تفوق الـ 8 أشهر في حمص، وفي يوم هاجمنا مسلحون وأشخاص يضعون أقنعة، كانوا يضربون الناس ويدفعونهم إلى الخروج من بيوتهم، وخوفا على أطفالي فررت إلى دمشق".


ذاكرة الألم

بدت نادية بملامحها الحزينة وعباءتها السوداء مصدومة من مشاهد الدمار في سورية، ما حصل أثر على نفسيتها إلى حد فقدانها الذاكرة، زوجها الذي صدم هو الآخر أُصيب بالسكري والقلب، وهو إلى الآن طريح الفراش، بعد أن أصيب بجلطة من جراء عدم تمكّن ابنه المتزوّج من اللحاق  بهم.

تقول نادية: "كنا نسمع دوي الرصاص، ونستيقظ على مشاهد الجثث والأشلاء المبعثرة هنا وهناك، تفرق جيراننا بعد أن استشهد عدد كبير من أبنائهم في الحرب، ومنهم من تشوّه، وآخرون ذبحوا وتم التنكيل بجثثهم".

تصمت نادية برهة، وكأنها تستجمع بقايا ذاكرتها، ثم تقول: "الكوابيس لا تزال تراود أطفالي، فيستيقظون من النوم مذعورين".

وتؤكد أن العناية الإلهية فتحت أمامهم طريقا ليصلوا إلى لبنان، إذ باعت مصوغاتها وتصرفت في مدخراتها لتتمكن من إعداد جوازات السفر، ثم دخلوا إلى الجزائر وتنقلوا من محافظة إلى أخرى ومن قرية إلى قرية وصولا إلى تونس.

تكشف نادية أنه لم يكن لديهم غاز ولا طعام، فقد حملت بعض المؤونة معها إلى دمشق، ولكن بعد شهرين نفدت المؤونة، فكانت تجلب الحطب وتطبخ الخبز، ولكن بعد نفاد "الطحين" اضطرت إلى جلب الأعشاب وطبخها.

تقول إن أحد الأبناء يعمل حاليا في مخبز في حي التضامن، وما يتقاضاه يسدد به إيجار البيت المقدر بـ 150 دولارا، أما المائة دولار المتبقية من الراتب، فتضطر نادية إلى تقسيطها على الطعام وبقية المستلزمات الضرورية.

لكن في ظل غلاء المعيشة وارتفاع أسعار المواد الغذائية، تؤكد نادية أنّ هذا المبلغ لا يكفي ولا يلبي حاجات الأسرة الوفيرة العدد، مبينة أنهم يحصلون على بعض المساعدات من الجيران وأبناء العم، أي السوريون المقيمون في حي التضامن.

ونفت نادية تلقيها أي مساعدات من السلطات التونسية أو من جمعيات خيرية، مبينة أنها لم تدق باب أحد رغم وضعها السيئ، وما زاد المسألة تعقيدا وصول ابنتها المتزوجة وأطفالها الثلاثة إلى تونس.

وعلى الرغم من أن زوج ابنة نادية طبيب أسنان، إلا أنه عاطل عن العمل حاليا، وظروف الأسرة دقيقة بسبب نفاد مدخراتهم المالية.

رعب المقاتلين الأجانب

غير بعيد عن بيت نادية، يوجد بيت خليل (الذي رفض الإدلاء بلقبه)، يقول إنه كان يعمل في مختبر لصناعة الأسنان في حمص، خليل أب لخمسة أطفال، يؤكد أنه لولا الحرب التي تسببت في إجهاض زوجته، لكان لديه الآن ستة أبناء.

يروي خليل حكايته لـ"العربي الجديد" ويقول إنه قدّم منذ 2012، وهو الذي سعى إلى إقناع أفراد عائلته، بالقدوم الواحد تلو الآخر، والدته ووالده، وكذلك أبناء العم وتقريبا أغلب أفراد العائلة.

يؤكد أنه قدم إلى تونس ليس فرارا من جحيم الحرب، بل من الأشخاص الذين قدموا إلى سورية، وهؤلاء لا يفرقون بين عدو أو مدني، فيقتلون ويذبحون ولا يهمهم أي روح بشرية.

وكشف محدثنا أنّ هناك من عمل على تهجير السوريين من بيوتهم، حيث كان الرصاص يطلق عمداً على المنازل، ثم بمجرد خروج العائلات منها، يتم الاستيلاء على بيوتهم ونهبها، مبيناً أنهم وجدوا العديد من ممتلكاتهم الخاصة عند أشخاص يعرفونهم في سورية، متسائلا عن السبب؟

ولاحظ خليل أن طبيعة السوري تجعله يتأقلم في أي مكان من العالم، شريطة أن يحترم قانون البلد الذي يوجد به.

كان أطفال خليل يستعدون للذهاب إلى المدرسة، وقد بدا الطفل زياد سعيدا وهو يحمل حقيبته ويتحدث بعفوية الأطفال عن أصدقائه الجدد بلكنة تونسية.

أبناء خليل يدرسون في الصفين الرابع والسادس، واثنان منهم في الصف الثاني الابتدائي.. وربما يسّر صغر سنّهم الاندماج مع أترابهم الجدد، لكنهم يضطرون إلى حصص تدارك عند جارتهم التونسية.

"التعليم في سورية مجاني تماماً، فالأسرة لا تتحمل أعباء الطفل الذي يدرس، ونحن تقريباً لا ننفق إلا على اللباس والطعام، أما التدريس والعلاج فمجانيان"، هكذا تحدثت زوجة خليل لـ "العربي الجديد"، مضيفة أن المعيشة في حمص غير مكلفة، فالمائة دولار مثلا تلبي العديد من الحاجات للأسرة، وخاصة بالنسبة لأصحاب المهن الحرة.

الحنين باقٍ

تفاحة جمعة حمدين، هي سيدة في عقدها الخامس، وهي أيضا قريبة خليل، ليس لديها أبناء، وفي كفالتها ابنة شقيقها "بدور"، تقول لـ "العربي الجديد" إنها ربتها منذ الصغر، مضيفة أنّها كانت في الأردن عندما اندلعت شرارة الحرب في سورية.

تفاحة لم تعد إلى سورية ولا إلى بيتها وجيرانها.. بل قدمت مباشرة من الأردن إلى تونس، وتؤكد أن لديها شقيقتها في سورية، وتعيش في رعب متواصل مخافة أن يصيب مكروه أحد أفراد عائلتها.

تقول تفاحة إنها تحنّ كثيرا إلى بيتها وإلى أهلها وإلى وطنها، وتشتاق للعودة إلى الديار: "بمجرد هدوء الأوضاع، سأستقل أول طائرة لأعود إلى وطني، فالوطن غالٍ، صحيح أنا هنا بين أهلي، ولكني أحن كثيرا إلى وطني".

لم تخف تفاحة صعوبة العيش في تونس بسبب قلة الموارد المالية، فلولا قريبها الذي يسدد لها الإيجار وبعض أقربائها الذين يغطون مصاريف الأكل والعلاج، لكانت في مشكلة، لأنها تعاني من مرض القلب وتضطر أحيانا إلى دفع ثمن الأدوية بالتقسيط.

"بدور" فتاة لم تتجاوز العشرين عاما، كانت تراقب عمتها بنظرات فيها الكثير من الألم، تقول: "لقد تركت حياتي هناك، لم أعد إلى مقاعد الدراسة بسبب اختلاف المناهج التعليمية، وأيضا بسبب قلة الموارد المالية، واشتقت حتى إلى الفول والحمص".

السوريون في تونس

شوقي راجح كاتب عام جمعية "الجالية السورية في تونس"، قال لـ"العربي الجديد": إنّ الأرقام الرسمية للمقيمين السوريين في تونس متضاربة، فهي تشير إلى نحو 600 لاجئ في تونس، أغلبهم يتوزعون على محافظات تونس الكبرى وسوسة وصفاقس.

وأضاف راجح أن التقارير غير الرسمية تتحدث عن ثلاثة أو أربعة آلاف لاجئ سوري في تونس، مرجحا أن يكون هذا الرقم هو الأقرب للواقع، مبينا أن بعضهم قدم برّا عن طريق الجزائر أو ليبيا، وأنهم لم يبلغوا السلطات التونسية أو المفوضية السامية للاجئين عن وجودهم في تونس خوفا من ترحيلهم.

واعتبر أنّ العديد منهم يواجه صعوبات في تجديد جوازات سفره أو تسوية أوراق إقامته في تونس، أو حتى تسجيل مواليد جدد، مبينا أنهم عاينوا، كجمعية، حالات لم يتمكن خلالها بعض السوريين من تسجيل أبنائهم في دفاتر الحالة المدنية. 

واعتبر راجح أن نسبة هامة من السوريين لا يمكنهم الحصول على تصاريح زواج ولا يمكنهم المغادرة لتجديد وثائقهم في سورية، بسبب قطع العلاقات التونسية السورية، وأضاف أنه في كثير من الحالات تتغاضى السلطات التونسية عن الوضعيات غير القانونية، ولكن أهم مطلب للسوريين، هو إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

وحذر راجح من استغلال بعضهم أزمة السوريين في انتحال جنسية سوريّ والدخول بوساطة جواز سفر مزوّر أو استغلال الأمر للتسول، نظرا للعطف الذي يلاقيه السوريون من قبل التونسيين.

اقرأ أيضا:
سوريو تونس: لاجئو "الخلسة" و"التسوّل"
السوريون في تونس.. انتهاكات تدفعهم إلى قوارب الموت الأوروبية