الكتب تشبه الطرق التي نسلكها إلى المنزل!

23 ديسمبر 2019
+ الخط -
هُناك كتب تعيش بيننا وتكتسب كل يوم يمرُّ على صدورها جدَّة وطرافة، وجدارة بالقراءة، لأن ما فيها من مادة، ولأن ما تناولته من مواضيع، باقية ما بقي فكر الإنسان. ولا شك في أن هذه الحقيقة الماثلة في هذه الكتب التي تصدر في طبعات تخلف طبعات تُجدد علاقتها بالأجيال وتدفعهم للقراءة من جديد. لأن ما يمس شغاف القلب الإنساني لا بد أن يمس جميع القلوب. لذلك هل يسعنا القول بأن حضارة أي أمة هي ثمرة تفكيرها وما تُنتجه من كتب لا تموت.

هذه شهادتي. إنها شهادة شخصية، عن هذه النوعية من الكتب التي ساهمت في تشكيل وعيي المبكر، ومن ثمَّ رسمت بما لا يدع مجالاً للشك أُفقي المعرفي وفتحت دروب الفكر أمامي، وأصبحت الآن جزءاً من أفكاري ووجودي. وآمل أن أُحسن التعبير عمَّا تركته في وجداني من ثقافة كونية -لا أُحب كلمة ثقافة- لنقل معرفة كونية تنصبُّ في العقل المعرفي الذي يمسح الغشاوة عن البصيرة التي ترى في البشر ذلك الجانب من الصراط المستقيم والهادي إلى العمل. ويحضرني هُنا قول كونفوشيوس: لا أدري ما أفعل بالإنسان الذي لا يُسائل نفسه عما يجب أن يفعله.

بعض الناس يظنُّ أنه يعرف طريقه إلى البيت. أؤكد لكم أنني لا أعرف هذا الطريق دائماً، فكثيراً ما كنتُ أرتقي السياج بدل الدخول من الباب، لأنك قد تجد الحكمة في طبعة كتاب رثِّ مُغبرِّ مغمور ممزق مدفوع بالأبواب أكثر مما تجدها في كتاب أنيق الطباعة مذهَّب الحواشي يرتاح على رفِّ مكتبة فخمة في شارع أنيق.


يتقدَّم هذه الكتب بجدارة واقتدار كتاب (أصل الأنواع)، ففي زيارتي الأولى لمدينة دمشق صيف عام 1977، أنا القادم من بلدة ريفية صغيرة في الشمال السوري، تعرّفت إلى تشارلز داروين وكتابه المشهور، والمفارقة المذهلة أن هذه المعرفة جرت بالمصادفة، فقد أنهيت اختبارات مرحلة التعليم الإعدادي بنجاح، وأراد والدي مكافأتي، فأرسلني لزيارة أخي الكبير الذي يدرس الصيدلة في جامعة دمشق.

قادتني المصادفة في ذلك النهار الصيفي للسير في الطريق الذاهب مباشرة من ساحة الحجاز باتجاه شارع 29 مايو/ أيار، وبعد تخطي جسر فكتوريا، الذي كان يشيَّد آنذاك، رأيت على الرصيف الأيمن قبل خطوات من مقهى الهافانا والذي يجمع الله فيه شمل الكتاب والأدباء وأهل الثقافة، مشهداً أدهشني وبقيت صورته مطبوعة في مخيلتي إلى يومنا هذا: وقفتْ على ناصية الشارع عربة خضري بثلاث عجلات وبدل أن تكون مليئة بالخضار والفاكهة استبدل البائع بضاعته نسخاً مرصوفة فوق بعض من كتاب داروين (أصل الأنواع) وقد لفت البائع انتباه السابلة عن طريق نداء غريب غرابة بضاعته، فقد أمسك نسخة من الكتاب، رفعها بيده اليمنى، وصاح بأعلى صوته: يا شباب أصل الأنواع بثلاثين ليرة سورية -هي بضاعة على كل حال- وفعلاً اجتمع الناس حول بضاعته.

كانت النسخة المعروضة للبيع في الشارع العام من طباعة مكتبة النهضة بفرعيها في بيروت وبغداد ترجمة الكاتب والمفكر المصري إسماعيل مظهر. وقد ترجم الفصلين الأخيرين الرابع عشر والخامس عشر الدكتور محمد يوسف حسن أستاذ الجيولوجيا المساعد بكلية العلوم جامعة عين شمس، وذلك بعد وفاة إسماعيل مظهر. رسم غلاف الكتاب جمال قطب الرسام المصري المشهور والمتخصص برسم لوحات الكتب. وقد أمعن الرسام في جعل غرابة الكتاب شديدة برسمه صورة داروين وعن يمينها رسم وجه قرد مبتسم.

تألفت النسخة من سبعمئة وأربع وثمانين صفحة من القطع الكبير، وجاءت مقدمة المترجم في مئة صفحة، أضاء من خلالها أهم أفكار نظرية التطور الغريبة عن الفكر اليومي للقارئ العربي يوم ذاك-وأظن إلى يومنا هذا وأكثرنا ما زال يتخبط في عصر ما قبل داروين- وفي لفتة ذكية استحضر إسماعيل مظهر ما في التراث الإسلامي والمسيحي من أفكار حول تطور الكائنات الحية ودمجها مع فكرة التطور عند داروين كي يزيح الوحشة والغربة عن الأفكار التي يُترجمها.

هذه النسخة من كتاب أصل الأنواع والتي صدرت أول مرة في ثلاثينيات القرن العشرين، رافقت مسيرة حياتي العلمية من تلك الأيام ولم أتخيل يوماً أن هذه الواقعة ستكون مدخلاً للكتابة عن ذكرياتي مع هذا الكتاب الذي حاجج فيه داروين علماء عصره بثقة وروية. ظهرت الطبعة الإنكليزية الأولى لكتاب (أصل الأنواع) في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1859 في لندن في مئتين وخمسين نسخة فاخرة، بيعت في ثلاثة أيام.

بقيت نسخة إسماعيل مظهر الترجمة العربية الوحيدة الكاملة لكتاب (أصل الأنواع) المتداولة في الوطن العربي أكثر من خمس وسبعين سنة إلى أن أصدر المجلس الأعلى للثقافة في مصر ترجمة جديدة في عام 2004 ضمن مشروعه القومي للترجمة. تصدى لهذه الترجمة الدكتور مجدي محمود المليجي عن الطبعة السادسة لكتاب (أصل الأنواع) الصادرة في آذار سنة 1872 وهي الطبعة التي أضيف إليها الفصل السابع المحتوي على الاعتراضات التي قامت ضد نظرية التطور والردود عليها ليصبح الكتاب مكوناً من خمسة عشر باباً.

اليوم لا يستطيع أحد أن ينكر أن كتاب (أصل الأنواع) قد أحدث انقلاباً حقيقياً، كثيراً ما يوصف بأنه أهم الثورات العلمية جميعاً. ففي هذا الكتاب العديد من الشواهد المؤيدة لفكرة استمرار تطور الأحياء عبر الزمان. وفي العقود التالية لنشر كتاب (أصل الأنواع) اكتشف البيولوجيون مزيداً من الشواهد الدالة على أن هذا التطور قد حدث بالفعل. ولمدة أزيد من قرن ونصف القرن على صدور كتاب (أصل الأنواع) لم تعد هناك حاجة إلى إثبات التطور، فقد انتهى الحديث عنه كنظرية لأنه أصبح حقيقة راسخة رسوخ حقيقة كروية الأرض ودورانها حول الشمس. لأن لا شيء في علم الأحياء يمكن أن يكون له معنى إلا في ضوء التطور.

إن تشارلز داروين لم يكن أول من فكر بالتطور، ولكن إنجازه الحقيقي هو أنه جعل الفكرة محترمة، ففي أوائل القرن التاسع عشر كان مفهوم التطور غير مألوف تماماً. وقد كتب داروين لأحد أصدقائه عن حقيقة الاعتراف بفكرة التطور: إنه يشبه اعترافاً بجريمة قتل.
دلالات
عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.