الكتاب... الفأس

11 يوليو 2016
محمد عابد الجابري (العربي الجديد)
+ الخط -

عبارة "أن نقرأ في جميع الاتجاهات وبدون توقّف"، وللسنجاب الراحل نجيب محفوظ تعيينا، من أجمل العبارات أو بالأحرى المبادئ التي يمكن للباحث والدارس والمبدع... الاستناد إليها في مساراته المتتالية والمتداخلة، وفي الوقت ذاته من أجمل ما يمكن الاطلاع عليه في المبحث المعقّد، والثري، المتعلق بإشكاليات القراءة ومؤانسات الكتاب. ومن هذه الناحية أفخر بأن يتزايد اعتقادي في جدوى العبارة منذ أن ثقفتها، ومنذ أن ولجت قارة الدرس النقدي والبحث الفكري ومن موقع التدريس والإنتاج معا.

والقبول بالدخول في الكتابة عن الكتاب المؤثِّـر، في حياة الكتّاب والباحثين والدارسين والمفكرين، ومن خارج "اللعبة الإعلامية الفجّة"، لا يخلو من أهمية وبخاصة في حال الاستناد إلى منظور فكري رحب يقرّ بأدوار كتب محدّدة أسهمت في التأثير في حضارات وشعوب وثقافات... قبل التأثير في أفراد محدّدين.

ومن وجهة نظري، أو من منظوري القرائي المتجدِّد والمصاحب، فثمة كتب كثيرة كان لها تأثيرها. وحصل ذاك منذ لحظات تشكّـل الوعي الأولى وسواء في المدينة الصغيرة (أصيلا في شمال المغرب) التي نشأت فيها، وفي إطار من التنافس الشبابي من أجل إثبات الذات في دنيا القراءة، أو لاحقا في الجامعة المغربية وبعدها في مرحلة الدراسات العليا في أهم جامعة بالمغرب. وإذا كانت المرحلة الأولى، وبحكم عامل السن، هي مرحلة التعاطي لنصوص الإبداع وعلى وجه الخصوص نصوص النوع الروائي، فإن المرحلة الثانية كانت مرحلة "التطاول" (كما أسميها) على مصادر التراث الكبرى وعلى مراجع الدرس النقدي اللساني والبنيوي والسيميائي المعاصر ممثلا في نماذجه المرجعية والتأسيسية الكبرى. وهذا مع ميل جلي للناقد والمنظر تزفتان تودوروف الذي كان يكتب بلغة غير موغلة في التعقيد والرّطانة مقارنة مع ما كان يكتبه رولان بارت وفوكو وجنيت وغريماس... وغيرهم. وموازاة مع كل ذلك كان للمناخ الإيديولوجي، ولنشأتي في أقوى حزب يساري بالمغرب قبل أن يتحوّل إلى حطام سياسي، تأثيره. وكان للتأثير الأخير عناوينه أيضا.

وبعد المرحلة الأولى، ودائما في رحلة القراءة، جاءت مرحلة قراءة المشاريع النقدية والفكرية الكبرى. ومن هذه الناحية التهمت تقريبا كل ما كتبه عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي وتزفتان تودوروف وجابر عصفور وعلي حرب... وفيما بعد إدوارد سعيد... واليوم أحاول أن أقرأ مجموع ما نشرته فاطمة المرنيسي (في سياق إعداد كتاب عن النقد الثقافي النسائي المزدوج)... وكل ذلك يفرض الانفتاح على مشاريع أخرى من أجل الموازنة والمقارنة.

وفي ظل هذا المسار، الذي يمتد على ما يقرب من ثلاثين سنة، وبإدراج مرحلة الشباب الأولى، ثمة عناوين كان لها أبلغ الأثر وما تزال راسخة في الذهن حتّى الآن.غير أن الكتاب الذي طبع حياتي، أكثر، وخلخلها بشكل جذري، هو كتاب "نحن والتراث" (1980) للجابري... ولأسباب لا يمكن ردّها إلى ما هو معرفي فقط. فهذا الكتاب من نوع الكتب التي تخلق لنفسها أفقا معرفيا وفكريا وفي الوقت نفسه تسمح بالانخراط في هذا الأفق. ومرد ذلك إلى منهجيته الجديدة والمعاصرة (وقتذاك)، ومرد ذلك أيضا إلى لغته التحليلية المعمارية التي لا نقول بأنها في المتناول، لكنها لغة تسمح بمجاراتها وبفهم مضامينها مقارنة مع لغات مشاريع مغربية تحديدا كمشروع العروي بخاصة ومشروع الخطيبي إلى حد ما.

ما أزال أذكر، حتى الآن، ذلك العرض، البريء، الذي أنجزته حول الجابري وأنا في قسم الباكالوريا العام 1987. وكان، وقتذاك، أستاذنا، وأطال الله في عمره، لمادة الفلسفة والفكر الإسلامي، هو عبد السلام الجباري؛ وهو الآن معروف باعتباره كاتبا وقاصا بالمغرب. وكانت نظراته إلى كاتب هذه السطور، وهو يلقي عرضه، بثقة زائدة، لا تخلو من إشفاق وتضامن. كان من الصعب حتى تلخيص الكتاب ولو بشكل أوّلي. وكان الأهم هو ما تقوله المقدمة النظرية من ضرورة مركزية القراءة في التعامل الفلسفي مع التراث ممثلا قي قامات فلسفية مثل ابن خلدون وابن سينا والفارابي وابن رشد... وغيرهم.

وتأثير الكتاب، المتواصل حتى الآن، من القراءة التي يدعو إليها وعلى النحو الذي يجعلها قرينة نوع من التناص الموجب بين المقروء في تاريخيته والقارئ في تاريخيته. وعلاوة على هذا التناص الموجب الذي لا يضحي بطرف على حساب طرف آخر هناك الخلاصات والنتائج التي يصل إليها الجابري وسواء في "نحن والتراث" أو في باقي كتبه الأساسية. ولعل هذا ما لا يجعل التعاطي للجابري أبعد عن السياحة الفكرية والموضة الثقافية.


(كاتب وناقد مغربي)




دلالات
المساهمون