الكاريكاتيرالتونسي.. الثورة لم تمر من هنا

21 ابريل 2015
من رسومات كاريكاتير حسن المشيشي
+ الخط -
ما هي حال فنّ الكاريكاتير في تونس؟ ما هو وضع الفنّ ذي الرسومات السليطة والكلمات اللاذعة؟ أصحيحٌ أن للثورة أثرًا مباشرًا في الثقافة؟ أم أن مشاكل "الثقافة" وشجونها أبعد وأعمق؟ ملحق الثقافة سبر الموضوع لدى رسّامي الكاريكاتير أنفسهم، فما الأمر؟
بدأ الأمر أواخر 2011 حين رسم توفيق عمران مريم العذراء والسيد المسيح. الرسم كان ردّا على حوار سعاد عبد الرحيم النائبة عن حزب النهضة، هاجمت فيه الأمهات العازبات في تونس. قال الذين أوّلوا الرسم وقتها، إنه يضع السيدة مريم والأمّهات العازبات في المرتبة ذاتها. نُشر الرسم في موقع "راديو كلمة" وصفحة الفيسبوك، فاشتعلت صفحات التواصل الاجتماعي بالشتائم والتهديد. وفي الليل صدرت الفتوى بحرق الراديو وقتل الرسّام. "وقتها فهمتُ ما معنى أن تكون مهدّدًا بالقتل؛ أن تمتهن رسم الكاريكاتير". هذا ما قاله صاحب الرسم توفيق عمران، مكتشفًا خطورة فنّ الكاريكاتير. الحادث حصل بعد الثورة التونسية.
بيد أن الأمر لا يتعلّق تمامًا بالثورة، إذ إن لفنّ الكاريكاتير في تونس ماضياً غير برّاق كما لا يخفى، هذا ما تشي به تجربة عميد الفنّانين الكاريكاتوريين حسن المشيشي الذي يمارس هذا الفنّ منذ أكثر من أربعين سنة ذاق خلالها الحلو والمرّ. صحيحٌ أن أغلب الصحف التونسية احتفت برسوماته، إلا أنه واجه التهديد بالإعدام؛ فقد صدرت أربعة منها ضدّه في ليبيا، بسبب نشره عدّة رسومات سخرت من الديكتاتور الراحل معمر القذافي، وتمّ بثّها على القناة التلفزيونية الرسمية التونسية.
عرف المشيشي خلال مسيرته كثيرًا من المحاكمات والمضايقات رغم أساليب المراوغة التي كان يلجأ إليها لتجنّب الرقيب: "لم أكن مناضلًا ولا أزعم أني كنت على درجة من الشجاعة لأواجه جبروت بورقيبة، ولا سطوة بن علي. لستُ انتحاريًا ولا كاميكازيًا كي أنطح الصخر. لكن عنادي ورغبتي في البوح أوحتا إلي أن أتحايل على الرقيب مرّات، وأن يطيح بي مرات أخرى". وإذ سُئل عن "التغيير" الذي أحدثته الثورة، بسط المشهد قائلًا: "بعد الثورة تخلّصنا من ديكتاتورية السياسي، لنقع تحت براثن رجال الأعمال الذين أطبقوا على الإعلام، وخصوصاً المكتوب منه، وصار الرسّام الكاريكاتيري تحت أهواء صاحب رأس المال ومزاجه. فأغلب رسامي الكاريكاتير لا منابر لديهم. ما الفارق إذن بين نظام يقمعك ويمنعك من التعبير وآخر يمنحك حرية مطلقة للتعبير، لكنك لا تجد الفضاء الذي تعبّر من خلاله، وإن وجد تخضع مقابل ملاليم لسلطة صاحب الجريدة الذي إذا أراد شتم رئيس الدولة، يطلق ريشتك، لكنه يمنعك من إبداء رأي لا يروق له ولو تعلّق بموظف صغير؟" ويضيف: "لا حلّ لرسّامي تونس الكاريكاتوريين إلا إذا امتلكوا منابرهم الخاصة".
ولا يبدو في عين المشيشي أن هذا الوضع الصعب والشائك وليد الماضي القريب، أي الثورة، بل هو أقدم منها، ولا بأس في وضع النقاط على الحروف: "قبل الثورة، كان عدد رسامي الكاريكاتير في بلادنا ضئيلّا جدًا، وكانوا يعملون في صحف "مسالمة"، باستثناء بعض الذين برزوا "عشيّة" الثورة على شبكات التواصل بأسماء مستعارة. عدا ذلك، كان محتوى الكاريكاتير قبل الثورة، يقتصر على السخرية من ظواهر اجتماعية مريضة أو شطحات نجوم الغناء والرياضة، بينما كان من الأفضل وضع الإصبع على الداء، أي السلطة التي كانت سببًا في تردّي الأوضاع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. لكن للأسف، كان دور رسامي الكاريكاتير سلبيًا، إمّا بالابتعاد عن المواضيع السياسية أو هجر الرسم تمامًا. كلّنا متواطئون مع النظام السابق: إما بالسكوت أو بمجانبة الحقيقة أو الانعزال. أثناء الديكتاتورية، مررنا بجانب التاريخ. فقد برز، رغم التعتيم والتضييق نجوم في المسرح والسينما والشعر والإعلام والرواية، أمّا في الكاريكاتير، فلا أحد".
ويبدو أن زميله الشاذلي بلخامسة يتفق مع وجهة نظره في غير ما نقطة، فبلخامسة هو أيضًا من أعمدة الكاريكاتير في تونس، وقد عانى الأمرّين طيلة الأربعين سنة إيّاها، من أجل فرض لونه ورأيه في الصحف التونسية التي كانت في غالبيتها رازحة تحت سلطة الحزب الحاكم: "كانت الصحف التونسية في الثلاثينيات من القرن الماضي مزدهرة، حيث كان الكاريكاتير يوشّح صفحاتها، وكان صوته عاليًا. لكن، حين وصل الحبيب بورقيبة إلى الحكم، اختفت الصحف واختفى معها النقد والكاريكاتير عندما أعلن صراحة أن "زمن النقد ولّى لأن الذين كنتم تنقدونهم لم يعد لهم أي وجود". أدركتُ يومها أنه قدّر علينا انتقاد القشور؛ كأن يقتصر النقد على الفنّانين ولاعبي الكرة. وأذكر أني رسمت هيلاسي لاسي بعد إزاحته عن عرش إثيوبيا، فتمّ إيقاف الجريدة مدّة ستة أشهر، لأن الرسم كان يشبه بورقيبة، ومُنعت من الرسم نهائيًا. كذلك تمّ إيقافي عن العمل حين انتقدت مسؤولًا يشبه الوزير الأوّل السابق محمّد مزالي. وقتها قام مدير الجريدة بتضليل الرقيب؛ فأضفنا للمزالي شنبًا وكسونا صلعته شعرًا، لكن الرقيب تفطّن لخطتنا".
وإذ سُئل الشاذلي عن وضع رسّامي الكاريكاتير بعد الثورة لم يتلكأ: "لم نر تحسنًا بعد الثورة، فرسامو الكاريكاتير لم يرحب بهم لا حزب النهضة ولا الحزب الحاكم. ولم يعد من منعٍ مباشر، إنما يتمّ إشعارك في كلّ مرّة أنك غير مرغوب فيك سواء بتأجيل نشر رسوماتك بدعوى كثافة الإعلانات، أو في تأخير صرف المكافآت الضئيلة التي نتقاضاها. أضف إلى ذلك كلّه، قلة المنابر وأيضًا سطحية كثير من الأعمال التي استسهلت هذا الفنّ. أربع سنوات مرّت لم نستفد من مناخ الحرية، والانفجار الكمّي والجمالي ما زال مؤجلًا".
وخلافًا لما ذهب إليه المشيشي وبلخامسة، فإن توفيق عمران الذي صدرت، كما أسلفنا فتوى بقتله، يرى أن رسّامي الكاريكاتير "انفجروا بعد الثورة، بدليل أن جلّهم عاد إلى النشاط بعد انقطاع دام أكثر من عشرين سنة. وكثير منهم وُلد من رحم الثورة. وأقصد الأسماء الشابة والجديدة التي تنشط غالبًا على صفحات الفيسبوك أو المعارض الجماعية". لكنهم برأيه لم يحسنوا "الانقضاض على مساحة الحرية المتاحة بعد الثورة. وكان من المفروض أن يكون محتوى الكاريكاتير أكثر تحريضًا و"عنفاً"، إذ إنني من مناصري "الكاريكاتير التحريضي" على حساب "الكاريكاتير الهزلي"، وهذا يتطلّب خلفيّة سياسية صلبة وثقافة عامّة واسعة، أضف إلى ذلك الكاريزما التي يجب أن يتمتع بها الرسّام".

خفافيش تنتظر التصنيف

من المفارقات العجيبة، أن رسّامي الكاريكاتير كانوا يعانون من خطّ أحمر اسمه السياسة. أمّا بعد الثورة، ووفقًا للمشيشي ثانيةً فقد "انقلبت الأمور، وأصبح الرسّام ينتقد كلّ المواضيع بما في ذلك السياسة، إلا ما له علاقة بالدين. هذا قدر رسّام الكاريكاتير: من خطّ أحمر إلى آخر. الخوف أن يكشّر السياسيون عن أنيابهم يومًا، فيقع رسّام الكاريكاتير بين خطّين أحمرين؛ السياسي والديني. وكلّما اجتمع هذا بذاك، كُمّمت الأفواه وتقلّصت الحريات".
ويضيف "من خلال تجربتي الشخصيّة، بعد الثورة، فإن عوائق فنّ الكاريكاتير في بلادنا ثلاثة: أوّلها العائق الديني، فقد برزت بعد الثورة عدة حركات دينية متطرفة تعادي كلّ ما هو إبداعي، لاسيما فنّ الكاريكاتير. والدليل على ذلك أن أغلب المبدعين الذين كانوا ضحيةً لهؤلاء على الصعيد الدولي، هم رسامو الكاريكاتير، فهم الذين دفعوا فاتورة المشاكسة والجرأة. أمّا العائق الثاني فذاتي، أي الرقابة الذاتية، وهو أكبر وأخطر عائق يعترض رسّام الكاريكاتير، إذ يشلّ ملكة الإبداع، ويتمّ القضاء على أهم ميزة لفنّ الكاريكاتير؛ الجرأة والمشاكسة. وأخيرًا العائق المهني، فإذا قارنّا عدد العناوين الورقية والإلكترونية بعدد رسامي الكاريكاتير، لوجدنا أن عدد العناوين يفوق بكثير عدد الرسّامين، ومع ذلك فإن رسّامي الكاريكاتير يعيشون حالة بطالة إجبارية، و لم يجدوا متنفسًا إلا في صفحات التواصل الاجتماعي. وهنا يتحمّل أصحاب المؤسسات الإعلامية ذلك، فهم لم يقتنعوا بعد بجدوى الكاريكاتير".
أمّا الرسّام عماد البرداوي، فقد كانت وجهة نظره مختلفة وأدنى إلى الأثر الإيجابي للثورة، إذ رأى أنها "فجرّت حرية التعبير فينا، وصرنا ننتقد بكلّ جرأة. لكن حسب رأيي، لم يصمت رسامو الكاريكاتير، غير أن أعمالهم ظلّت بعيدة عن المتلقين، لأن أغلب الجرائد التونسية لا تنشر رسومهم، لذا اتجهت غالبيتهم نحو المعارض الجماعية والفردية، وبدت أعمالهم طافحة بنقد السياسيين، والواقع الاجتماعي والاقتصادي وأغلب المشاكل التي يعيشها التونسيون بعد الثورة".
لا أوهام لدى البرداوي في ما يخص أثر الماضي غير البرّاق لفنّ الكاريكاتير الذي: "ما زال يحاول فرض وجوده، بعد أن عانى سنوات طويلة من التهميش والإقصاء، خاصّة الكاريكاتير السياسي". ومع ذلك، فإنه يقترح حلًا عبر سؤال : "لماذا لا يُدمج رسّامو الكاريكاتير في الصحافة المكتوبة ووسائل الإعلام بصفة عامّة حتّى تصبح أعمالنا جزءًا لا يتجزأ من المشهد الإعلامي والثقافي؟.
الغالب إذن في مشهد الكاريكاتير في تونس هو التهميش الذي يشعر به هؤلاء الرسّامون، ولعل تعبير توفيق عمران، يلخص وضعهم: "نحن مثل الخفافيش، لم نُصنف مع الفئران ولا مع الطيور".
المساهمون