القوة الصلبة والناعمة في الثورة المصرية

23 ديسمبر 2014

الجيش المصري يغلق الطريق إلى ميدان التحرير (5 ديسمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

ساد مفهوم القوة الناعمة في أدبيات العلوم السياسية في العقود الماضية، للدلالة على قدرة الأفكار والمبادئ على تحقيق أهداف الدول وغاياتها، من دون استخدام القوى الصلبة، المتمثلة في التدخل العسكري وسلاح الثراء الاقتصادي. وتصلح هذه النظرية في شرح خريطة موازين القوى التي تحكم الثورة المصرية، منذ اندلاعها في يناير/كانون الثاني 2011. فالأجهزة الأمنية وقوات الجيش تقوم بدور القوة الصلبة في معادلة القوة في السياسة المصرية. وعلى مدار عقود طويلة، استطاعت باستخدام السلاح، أولاً، ثم بالمال ثانياً، تحقيق رغباتها ومآربها، والتي تتمثل في ما تراه هي استقراراً، وما يراه المعارضون قمعاً وقسوة. كما تمثل جماعة الإخوان المسلمين قوة صلبة أخرى، بدرجة أقل، تستطيع تحقيق مكاسبها السياسية، باستخدام كتلتها العددية الضخمة، والكفيلة بإحراز نجاح في معظم الانتخابات التي تخوضها، باستخدام تقنيات الحشد الانتخابي التي تجيدها، وميراثها من الخدمات الاقتصادية والدعوية التي تقوم بها الجمعيات التي يديرها أفراد الإخوان المسلمون. وهذه الجمعيات لا تقدم رشاوى انتخابية. ولكن، تجيد الجماعة الاستفادة من الرصيد الخدمي لسمعة أفرادها في إدارة هذه المؤسسات في مواسم الانتخابات.

خلال عهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، تم رسم خطوط الفصل بين هذه القوى الصلبة في السياسة المصرية، بشكل مقصود أو غير مقصود. وكان كل من النظام و"الإخوان" يعرف الخطوط الحمر التي لا يتجاوزها. فلا يرمي "الإخوان" بكل ثقلهم وراء أي حشد في مظاهرة عامة، ولا يلجأون لاستفزاز النظام، ويرضون بالمشاركة في انتخابات برلمانية مزورة لنيل بعض المقاعد؛ وسيلة لما يرونه إصلاحاً تدريجياً. وفي المقابل، لا تعامل الدولة مسجونيهم بالقسوة ذاتها التي تنتهجها مع سجناء الجماعات الإسلامية الأخرى، ولا تحاول استئصالهم، وتسمح لهم بهامش للحركة السياسية والنقابية والدعوية والخدمية، على الرغم من الضربات الأمنية الموسمية لها.

بدأت موازين القوى في الاختلال منذ عام 2005 تقريباً، نتيجة للانفتاح النسبي في جدار الحياة الحزبية والسياسية المصرية. فدخل إلى مجلس الشعب أكبر عدد من النواب في تاريخ "الإخوان"، وتأسست الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) وغيرها من الحركات المعارضة. وقال القضاة المستقلون كلمتهم في مواجهة تدخلات السلطة التنفيذية في القضاء. وعلى الرغم من الخلل الذي طرأ على موازين القوى، فإن النظام الحاكم آنذاك و"الإخوان" حافظا على الخطوط الحمر. ولم يرمِ "الإخوان" بكل ثقلهم خلف المظاهرات المختلفة، وخصوصاً مظاهرات قضاة الاستقلال. وبقي هذا الوضع حتى وصلنا إلى يناير/كانون الثاني عام 2011.

كان يمكن لمظاهرات 25 يناير 2011 أن تمر، كما مرت سابقتها من تحركات شعبية في ست سنوات، لولا أن عنصراً جديداً دخل إلى المعادلة، وهو القوة الناعمة لما يمكن أن نسميه، اليوم، ثقافة ميدان التحرير وأدبيات ثورة 25 يناير. فتراكم أدبيات الحراك السياسي في السنوات الست منذ 2005 وحتى 2011 أفرز ثقافة سياسية جديدة، تجلت في هذا اليوم وما بعده، وتعد المصريين بحلم في غد أفضل. ثقافة تبدع في التخطيط الميداني، وتستخدم عنصر المفاجأة وسرعة الحركة في المظاهرات، وتستثمر كل آليات حركات اللاعنف في العالم، بشكل أربك الأمن وأرهقه. كما تستلهم مباشرة النموذج التونسي، وتقول صراحة "الشعب يريد إسقاط النظام"، وتتحرك برشاقة بين التيارات والنخب الشبابية المختلفة، وتُجرد الحراك الشعبي من أي استقطاب، أو رايات، بشكل ورط "الإخوان" في تجاوز أحد أهم الخطوط الحمر؛ وهو حشد الأنصار بالآلاف في أكبر ميادين القاهرة. وانطلق شباب "الإخوان" وبقية شباب التيارات الأخرى، وحتى غير المنتمين لأي تيار، لتطبيق أفكارهم الجديدة على أنفسهم فوراً. وجسدوا قيم الاحترام والتعاون وعدم الإقصاء والتفاني والتضحية والإبداع والفنون، في مساحتهم الاحتجاجية التي اقتنصوها من الدولة، ومن عالم الكبار، والمتمثلة في ميدان التحرير بطريقة أبهرت الجميع.

استطاعت هذه القوة الناعمة الصاعدة أن ترجح كفة قوى المعارضة في مواجهة قوة النظام الصلبة. فانحنى النظام للعاصفة، واختفى حسني مبارك من المشهد. ولأن الفشل لقيط، وللنجاح ألف أب، انتشى الجميع من الفرحة، كلٌ يدعي وصلاً بليلى الثورة. وسرت أنباء القوة الناعمة للشباب المصري للعالم كله، فمدحه قادة الدول، واستلهمت حركات شبابية في دول غير عربية نموذجه الفذ في الاحتجاج. وظن معظم الإسلامين، ومنهم "الإخوان" أن في مقدورهم استثمار قوتهم الصلبة، والتي تعززت بفعل الثمار الإيجابية للثورة، في الدفع بالبلاد إلى الأمام، والقضاء نهائياً على ما تسمى الدولة العميقة. أي المضي في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة، ونيل شرعية سياسية تمكن من تطبيق برامج إصلاح سياسي واقتصادي. ولم تجد القاعدة الإخوانية العريضة أية غضاضة في فصل ممثلي الجماعة من الشباب في ائتلاف شباب الثورة، والذين كانوا قادة الحراك الميداني على الأرض في أثناء يناير 2011. واعتبر الإسلاميون عامة، والإخوان خاصة، أن مشاركتهم المهمة في إنقاذ الميدان يوم موقعة الجمل، وتقديمهم الشهداء في أقطار مصر كافة هي العامل الحاسم في نجاح الثورة. وهي حقائق لا ينكرها أحد. لكنها جهود ما كانت لتنجح، لولا القوة الناعمة لشباب الحركات الثورية، ومنهم شباب في "الإخوان المسلمين"، وثقافتهم وطريقتهم في الاحتجاج، وحلمهم الذي سرى في كل الوطن، فصنع حالة عامة يصعب احتواؤها.

كانت هذه القوة الناعمة العصا السحرية، أو الحصان الذي جر عربة بقية قوى المعارضة الصلبة وأكسبها هذه الجولة. ولا يمكن فهم غياب الفارق بين دوري القوة الصلبة والناعمة في الثورة، إلا إذا نظرنا لما حدث في 30 يونيو/حزيران 2013 واعتصام ميدان رابعة العدوية الذي استمر من بعده. فقد وفرت التيارات الشبابية والثورية قوة ناعمة للقوى الصلبة، المتمثلة في الأجهزة الأمنية، ظناً منها أن قوتها الناعمة هي التي حسمت معركة يناير، بمعزل عن قوة الإخوان والإسلاميين الصلبة، فمالت الكفة، هذه المرة، لصالح الدولة العميقة وأجهزتها الأمنية. وبالمناسبة، هناك قطاع مهم من شباب "الإخوان" الذين تم فصلهم، أو استقالوا على مراحل مختلفة لأسباب تنظيمية وسياسية من الجماعة، يشكلون رافداً مهماً لهذه الحركات الشبابية والثورية، وهي نخبة تنظر لها معظم قيادات "الإخوان" كأرقام داخل الجماعة، يمكن أن تحل محلها أرقام أخرى من شباب الجماعة، ليؤدوا الدور نفسه. وهم يغفلون بذلك السياق الاجتماعي والسياسي الذي أفرز هؤلاء الشباب.

واستمراراً لهذه النظرة لموازين القوى، ظن الإسلاميين و"الإخوان" في اعتصام رابعة العدوية أن لديهم كل مقومات ميدان التحرير، من مساحة شاسعة وحشود غفيرة من المحتجين السلميين ومطالب مشروعة. وأن هذا الأمر كفيل باستنساخ نموذج يناير 2011، والوصول إلى النتيجة نفسها. وظلت هذه القناعة راسخة، حتى وقعت المجزرة المؤسفة. إذ لم يكن في الحسبان أن هناك عنصراً غائباً؛ وهو تلك القوة الناعمة التي صنعت نموذج ميدان التحرير الذي تكفل الإسلاميون والإخوان بتقوية أساسه وحمايته، وشارك الآخرون في بنائه وتزيينه، فخرج بتلك الصورة. وكانت المجزرة تعبيراً عن المواجهة بين قوتين صلبتين تقليديتين، حسمت للأسف لصالح الطرف المسلح، على الرغم من التسليم بأن هناك قوى كثيرة من غير "الإخوان" كانت في ميدان رابعة، لكن الاعتصام كان معبراً عن تيار فكري بعينه، حتى لو لم ينتمِ كل المعتصمين له تنظيمياً، وهذا لا يبرر بأي حال التعامل الأمني القاسي معهم.

لا أحد يطالب جماعة الإخوان المسلمين بالتخلي عن رصيدها من القوة الصلبة الذي راكمته عبر سنين طويلة من الكفاح. ولكن، لا يمكن أن تتخيل الجماعة، ويتخيل معها الفزعون من قوتها أن تلك القوة يمكن أن تتحول، بين عشية وضحاها، إلى قوة ناعمة. أي إلى مجموعة أفكار وأحلام تستقطب خيال الشباب، فيشعرون بالانتماء إليها من دون المرور بمراحل عضوية التنظيمات المعروفة. فليس كل من أعطاك صوته في الانتخابات يريد أن يخرج ليموت معك في مسيرة احتجاجية، على الرغم من تأييده حقك في العمل السياسي، وعودة محمد مرسي إلى الرئاسة.

وعلى الرغم من مرور عام على مجزرة رابعة العدوية، يسود المنطق نفسه لدى كثيرين من مؤيدي الشرعية. فعلى الرغم من مشروعية مطالبهم والظلم الشديد الذي تعرضوا له، فإن هناك صعوبة في أن تميل كفة الصراع لصالح المعارضة الحالية؛ ما لم يدخل عنصر جديد للمشهد، يقوم بدور القوة الناعمة التي تقلب المعادلة. ولأن لتلك القوة مفعول السحر في يناير 2011، ما فتئ كثيرون يحاولون استدعاءها، من دون جدوى، في شكل اتحاد بين القوى السياسية والثورية أو توحد المطالب وخلافه. وهذه خطوة على هذا الطريق، لكن الأمر أوسع من ذلك وأعمق، فالتوافق بين الفرقاء السياسيين وسيلة تعزز من هذه القوة ولا تصنعها. وكان التوافق من ثمرات حركة الشباب في يناير 2011، وليس منشئاً له. لذا، يتطلب الأمر تشكيل قوة ناعمة جديدة ذات صبغة شبابية، أو إعادة إنتاج لقوى يناير الأولى، في شكل مبادئ وأحلام جديدة، ترى فيها كتل بشرية جديدة مستقبلها، فترمي بثقلها وراءها، وتبدع في الحركة الضاغطة على النظام، فالمقاومة المدنية ليست تظاهراً فقط. لأننا الآن أمام قوتين صلبتين تستنزفان بعضهما، من دون قوة ثالثة ناعمة، تصنع حالة شعبية عامة، تجبر النظام على الرضوخ لها. فالإخوان ومؤيدو الشرعية كسروا كل ما كان أمامهم من خطوط حمر؛ تتمثل في الاعتصامات والتجمعات، والنظام بدوره تجاوز كل الحدود، ووصل إلى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، كما حدث في مجرزة رابعة العدوية، على حد وصف تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش. أي أن كلا الطرفين قدم أقصى ما عنده، ووصلنا إلى نقطة التعادل، أو ما يسميه بعضهم بمعادلة صفرية.

وخطورة غياب هذه القوة الناعمة، الآن، ليس فقط إطالة أمد الظلم والضحايا، ولكن فتح المجال أمام احتمال حسم قوة صلبة أخرى للمعركة، وقد تتمثل في فوضى عارمة، أو عامل خارجي لا قدر الله. فالقوة الناعمة بطبيعتها، كأفكار ومبادئ وأحلام، تحفر قنوات لسيل الثورة الهادر، فتحيله أنهاراً تسقي الحرث والنسل، بدلاً من أن يكون طوفاناً يغرق الجميع. ونتذكر أن احتمال الطوفان كان يلوح في الأفق مع نهايات عام 2010، لولا أنه كان هناك من يحفر الأرض ويحرثها، ويقيم مجرى استعداداً للسيل المقبل.