القناة الفرنسية الرسمية تراقب نفسها لتريح رأسها..

30 ابريل 2014
جملة "جنود إسرائيليين يقتلون أطفالا فلسطينيين" اعتبرت مستفزة
+ الخط -
ما هي الطريقة المثلى لعدم إثارة مسائل العنصرية والإسلاموفوبيا ومعاناة الشعب الفلسطيني وقضايا العبودية، وغيرها كثير، في برامج الراديو والتلفزيون الفرنسية؟ الجواب سهلٌ وهو عدم دعوة مثيري "الشغب" الإعلامي، الذين يُنغّصون على الفرنسيين انشراحهم وانسجامهم وسهراتهم الناجحة.
وفعلاً، وسواء اقتنع المرء بوجود قائمة سوداء من مفكرين وصحافيين وساسة تُحظَر دعوتُهُم إلى وسائل الإعلام، فإن أشخاصاً معينين لا تجري دعوتهم إلى التلفزيون والراديو الفرنسي الرسميين، اللذين يُموّلهما دافِعُو الضرائب الفرنسيون، أو لا يراهم المُشاهِد إلا نادِراً، وبصورة خاطفة. وغالباً ما يحاصرون بنوع معين من الأسئلة وعدم تركهم يُكملون أجوبتهم، ولعلّ هذه الطريقة السريعة في جعل الضيوف يجيبون ولا يتوقفون هنيهة للتفكير واستعادة التنفس، هي التي جعلت الفيلسوف الفرنسي المرموق الراحل جاك ديريدا يعترف صراحة بأنه لا يرى نفسَه ضيفاً على برنامج برنار بيفو الشهير "أبوستروف".
وإذا تركنا جانباً برنامج فرديريك تاديي، وقد أثارته صحيفة "العربي الجديد" في مقال سابق، فإن البرنامج الوحيد المتبقي في القنوات الرسمية الفرنسية هو برنامج روكيي "لم نَنَم بعدُ!" "القناة الثانية: فرانس 2" وهو متواصل منذ سنوات، وعلى الرغم من تأخر بثه (بعد الحادية عشرة ليلاً، ويستمر لأكثر من ساعتين)، فهو يقوم من حين لآخر، وعلى مضض، باستدعاء ضيوف لا نراهم في برامج أخرى. ويعود الفضل إلى أيميريك كارون، وهو صحافي مُصاحب لرولان روكيي في البرنامج (يؤدي دور القنّاص الذي لا يُجامِل)، في إثارة سجالات وطرح أسئلة غالباً ما تستفز الضيوف وتُفاجِئُ، من حيث لا يحتسب، الضيفَ الواثق من نفسه. وهو ما يشكل لحظات السعادة النادرة في البرنامج الذي تغلب عليه التسلية والسخرية.
لكن كعب أخيل البرنامج يتمثل في كونه ليس مباشراً، وهنا يلعب التقطيع والرقابة الذاتية دوراً لا يُستهان به في حِرمان المُشاهد من تلقائية وصدقية الأجوبة، ومن الردود التي لا تروق للقناة الثانية الرسمية ومسؤوليها. ويجد المُشاهِدُ نفسَه في المحصلة النهائية مع برنامج يشبه البرامج الأخرى، وما عليه إلّا أن يَقْبَل بالحقيقة التي يريد الأقوياءُ أن يُصدِّق بها.
وقد تعرّف الجمهور إلى أيمريك كارون منذ بداياته الأولى حين حلّ محل إيريك زمّور، واكتشف أنه لا يُجامل في قراءاته وانتقاداته وآرائه، وهو ما جعل وزيرة نيكولا ساركوزي السابقة، راما ياد، وهي من أصول سنغالية تخاطبه: "أفهم لماذا يكرهك الجميع!"
وهو يتعامل بالقوة والطريقة نفسيهما سواء في البرامج التلفزيونية أو في مؤلفاته وكتاباته.
وآخِرُ ما ظهر في الأسواق كتابه: "غير صحيح"، وهو مُؤلَّف سجالي يفضح فيه اليسار البورجوازي البوهيمي، الذي يروقه إعطاء الدورس وإظهار "الإنسانوية" الخادعة واليمين الغبي. وبالطبع لم يَرُق الكتاب للكثيرين، وإن كان الجمهور قد تلقفه بشغب وإعجاب كبيرين. وقد حظي الصحافي إيريك زمور، قنّاص رولان روكيي السابق، بِوَابلٍ من الانتقادات والتوصيفات. ومنها أنه: "أيديولوجي اليمين المتطرف الذي يتلاعب بالحقيقة"، ويُدعِّم أيمريك كارون انتقاده بالأدلّة: "يؤكد زمور في برنامجه في راديو RTL وجود 12 مليون أجنبي في فرنسا، وهي أرقام غلط". ويستعرض كثيراً من الوقائع التي أخطأ فيها الصحافيون في قناة أوروبا 1 ولم يعتذروا عنها، ومنها ما نقلوه عن نقابية في الشرطة عن قتلى كُثُر في حادثة قطار في الضاحية الباريسية (بريتيني-سور-أورج) وحدوث حالات سرقة للجثث واعتداء على سيارات الإسعاف. ويؤكد كارون أنها محض "إشاعات"، و"تحولت حادثة انحراف قطار، فجأة، إلى موضوع عن الضواحي والهجرة..."
وآخر "مُشاغبات" أيمريك كارون تحولت إلى فضيحة رِقابة ذاتية على البرنامج الذي ينشّطه الصحافي مع آخرين. ويتعلق الأمر باشتباكٍ حادّ حصل بين الصحافي أيمريك كارون والمُخرج السينمائي الصهيوني ألكسندر أركادي، وقُطِع من البرنامج الذي عرضته القناة الثانية. وكانت المناسبة ظهور فيلم "24 يوماً" المتعلق بقضية يان حليمي، هذا الفتى الفرنسي من أصول يهودية الذي اختطفته عصابة 24 يوماً قبل أن يُعثَر عليه قتيلا، فشغلت الرأي العام الفرنسي والإسرائيلي. وقد أثارت القضية الرأي العام الفرنسي واستخدمتها الدوائر الصهيونية الفرنسية للتهويل من خطر معاداة السامية، ودفعت مسؤولين إسرائيليين وَقِحين لتوجيه رسائل إلى يهود فرنسا لمغادرتها.
لم ينكر الصحافي أيمريك كارون هذه القضية ولم يُخْفِ تعاطُفَه مع الضحية وعائلته ولكنه ذكّر بحقائق أخرى تفقأ الأعين. وأكّد، مُستدِلا بلغة الأرقام، أن هذا الفيلم، الذي يتبنى وجهة نظر عائلة القتيل، يُغفل تزايُداً رهيباً في الأعمال الإسلاموفوبية. وأن الفيلم يمنح أهمية لحدث معزول في حين أن الإسلاموفوبيا أصبحتْ واقعاً يومياً. "لغة الأرقام" (بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي) لم تعجب ألكسندر أركادي.
وحين تحدّث الصحافي كارون عن جنود إسرائيليين يقتلون أطفالا فلسطينيين، ثارت ثائرة المخرج، ووصفها بـ"جملة مستفزة بشكل رهيب". واستعان المخرج الصهيوني بما نُسِب للرئيس أبو مازن من دعوته للفرنسيين قائلاً: "إن القضايا الفلسطينية الإسرائيلية هي قضايانا وأطلب منكم ألا تنشغلوا بها".. ويختم أركادي مسلّطاً غضبه على كارون: "ولكن الشاذ في الأمر هو أننا نتحدث عن جريمة معادية للسامية في فرنسا، بينما يأتي السيّد بتأكيداتِ شخصٍ يُعادي الصهيونية ويعادي إسرائيل بطريقة كاريكاتورية".

مَن يخاف من؟
والغريب في الأمر أن منتجي البرنامج والمخرج ارتأوا استشارة السينمائي أركادي من دون استشارة الصحافي كارون، واستنتجوا أن لقطاتِ إدانة إسرائيل ومحاكمة جيشها وإثارة الإسلاموفوبيا والعنصرية ضد غير اليهود، صعبة التحمل، فقرروا قطعها، من دون أن "يُمارِسوا رقابة ذاتية!"، فقط، من أجل "حماية" الجمهور.

دلالات
المساهمون