كانت تقنية الكتابة بسيطة بساطة الموضوع الذي تعالجه. نرى ذلك في قصص محمد أحمد الفيل وآخرين. لكنّ الكتابة خرجت في بواكير الستينيات من سذاجة السرد إلى تلمس قضايا المجتمع، نعطي مثلاً لذلك كتابات عثمان علي نور وخليل عبد الله الحاج وأبو بكر خالد وملكة الدار محمد.
ولعل قيام منبر للسرد متمثلاً في "مجلة القصة السودانية" للقاص عثمان علي نور، شجع أقلاماً كثيرة لتنخرط في كتابة هذا اللون الإبداعي. من الذين تلمسوا خطواتهم الأولى في مجلة القصة الروائي الذي طبقت شهرته الآفاق فيما بعد - الطيب صالح - الذي نشر فيها قصته القصيرة "حفنة تمر" في بداية الستينات. ثم تبعهم جيل الطيب زروق وعثمان الحوري وعلي المك.
وبنظرة إلى كتابات هؤلاء نرى أنّ أموراً كثيرة تغيرت من حيث تقنية الكتابة. يبدأ الطيب زروق قصته "الأرض الصفراء": "منذ يومين فقط كانت خطواته فيها كثير من الحيوية والنشاط. لم يكن جسمه يعرق كثيراً هكذا... بضع حبات فقط من العرق كانت منتشرة في أجزاء متفرقة من جسده الطويل المشدود الذي يشبه المومياء".
أو أن تستعير القصة أسلوباً مغايراً حين يستخدم القاص المونولوغ الداخلي. فيتحوّل الراوي إلى شاهد عيان إذ يسترجع الأحداث كما في قصة علي المك "كرسي القماش": "لأول مرة تدرك أن هذا الشارع القديم لم تمسه يد إصلاح ، ويبدو أن الأشياء لا تتغير كما ينبغي. "أهذا يومك الأول؟ أو تمضي باقي حياتك على هذا المنوال؟ وما بقي منها هذه الحياة؟ لقد انتهيت عند الحكومة فلفظتك إلى الشارع" - تحدّث نفسك".
يستخدم علي المك حواراً داخلياً (مونولوغاً) إذ ينقل لنا حالة التشعث لموظف في أول يوم يحال فيه إلى المعاش. الخلاصة أنّ كتاباتٍ جديدةً منذ فترة الستينات حتى بداية السبعينات قد استوعبت أشكالاً معاصرة لفن السرد. لحق بهذا التيار في الحقبة ذاتها عيسى الحلو ونبيل غالي وجمال عبد الملك (ابن خلدون) ثم تبعتهم أقلام جديدة في السبعينات تمكنت من تحويل مسار القصة القصيرة وصهره في قالب أكثر نضجاً وحداثة.
تعتبر الفترة التي نضج فيها عيسى الحلو فنياً نقطة انتقال من حيث التحوّل في سبل كسب العيش والهجرات المتواصلة من الريف إلى المدينة. وكاتب القصة الناجح هو من يلتقط القفاز ويحاول محاكاة الواقع الجديد. في مجموعته الأخيرة "رحلة الملاك اليومية"، والتي تضم ثلاثين قصة قصيرة، تتراوح في أحجامها، هناك خاصية يمكن أن نطلق عليها سحرية الزمان والمكان في سرد عيسى الحلو. فالزمان في قصصه دولاب متحرك.
يتأرجح بداخله الكائن الإنساني بين ماض وحاضر. في قصته "رجل بلا ملامح" تقول الفتاة: "اشتد ارتباكي واضطرب الوعي وتشوّش. لقد أصبحت بلا ماضٍ... وهكذا أفقدني الرجل الذي يقف أمامي الآن هويتي بفعل قوة زمانه المعجز الذي قسم حياتي إلى ماضٍ باهت الصور ومنسي، وإلى واقع أكاد لا أتبينه.." ثم إن الوقت يبدو في سردية الحلو مثل كائن خرافي يحصر عمر وقدر الإنسان بين دفتيه. يكتب في "الملكة والعرش": "ويتدفق الزمان ثلاثين سنة إلى الوراء، ثلاثين سنة إلى الأمام. وبين الزمنين يدق زمن أكبر..دقات تتوالد الآن بين رنين الساعتين، وتختلط المواعيد. ومن بينهما يجيء صمت مثل جناحي طائر خرافي".
في الخطاب السردي للحلو يتمحور قدر الإنسان في حالة من الدوران المعاكس مع الزمن، لا يملك الإنسان الإفلات منها. هاجس الزمن الوجودي يتكرر كثيراً في قصص الحلو، حتى إنه في بعض الحالات يكون حواراً غامضاً بين الوجود والعدم. في قصته "رحلة الملاك اليومية" التي تحمل عنوان هذه المجموعة، نقرأ: "قبل طلوع الفجر بقليل ساد صمت عميق لا يشبه صمت كل تلك الليالي قبل مجيء الفجر. بل هو صمت يمتلئ بإمكان التوقع. هو مثل لحظات الانتقال من زمنٍ إلى زمن".
هذا الغموض في استخدام عنصر الزمن، يتطلب مهارة في ربط أجزاء السرد - خاصة في الحيز المحدود للقصة القصيرة - وإلا صار خصماً على ترابط النسق السردي للنص. نرى ذلك في بعض النصوص التي رغم تماسك خيوط العمل السردي فيها لكن التعمية المتعمدة في لعبة الزمن تجعل الغموض وكأنه حشر في النص.
نقرأ في قصة "الملاك الجميل يمر من هنا": "وفي ذات مساء باكر جاءت للدكان امرأة في الخمسين.. وقالت للعجوز هو ولدي! وقد غضب مني لأن والده قال: إنه وجد رجلاً آخر غيره معي! ولكنّ أبا ولدي مغيث مريض. وقد كان معي ذلك اليوم. كنا نشرب الشاي معاً.
كنت أضحكه ويضاحكني. وفي الصباح ، قال منكراً إنه لم يكن هو ذاك الرجل الذي كان يجالسني. وقد قال لي طبيب المستشفى الذي يعالجه إن زوجي قد أصبح رجلين لا يعرف أحدهما الآخر". نستطيع القول إنّ هذا التلاعب بالذاكرة يجعل شخصيات القصة في مخيلة القارئ مرضى في مستشفى مجاذيب، بينما يقول النص غير ذلك. لكن يظل عنصر الزمان في نصوص عيسى الحلو ركيزة هامة في حيوية السرد وجماله.
الخاصية الثانية التي تبدو محورية أيضاً في معظم نصوص هذه المجموعة هي سحرية المكان، بل غموضه في معظم الأحوال. فإلى جانب سحرية الزمان وسطوته يعطي الكاتبُ المكان مهابة ويخلع عليه شيئاً من الفنتازيا.
في نص بعنوان "الملكة والعرش" نقرأ: "فكان البيت الكبير ذو الأبواب المقوسة بأشجار الفكوص الداكنة الخضرة العالية، يتراءى في أقصى المدينة كما لو كان محمولاً فوق ظهر السحاب الشفاف البعيد" فالبيت القائم في مكان منعزل يبدو في مخيلة القارئ وكأنه بيت جان. هذا الغموض في المكان يبدو إضافة للنص عندما يلبسه الحلو لغته الثرة وعباراته المختزلة، المترعة بلغة شعرية جزلة.
وإن كان الخطاب السردي لعيسى الحلو في "رحلة الملاك الأخيرة" قطع شوطاً بعيداً من حيث تقنية الكتابة وكثافة اللغة؛ إلا أنه يؤخذ على المجموعة أن بعض نصوصها تقترب في حجمها من الأقصوصة (Novella)، حيث اكتظت بإفاضة في الوصف - الشيء الذي ترفضه طبيعة القصة القصيرة بما تتصف به من تكثيف للعبارة وإيجاز في الوصف.
* شاعر وقاص سوداني مقيم في لندن