القرد في عين أمه

25 يوليو 2015
+ الخط -
نتواطأ كمجموع على إقرار مبدأ التضليل ولعبة الإيهام، بذريعة الحب، حين نردد، بشكل ببغائي، المثل الشعبي: القرد بعين أمه غزال. فالأصل أن القرد بعين أمه قرد، ولا شيء غير ذلك، بل إنها ترى قردها الصغير أجمل من كل الغزلان مجتمعين، وتحبه وتحنو عليه، انطلاقا من صفاته قرداً كامل الأوصاف. وتحلم أن تراه شاباً محبوباً معتمداً على نفسه، مرتبطا بقردة بنت حلال، تجعل منه أبا لقردة صغار، لا يقلون جمالاً وفتنة عن ولدها الحبيب! هذا هو جوهر الحب، غير المستند إلى مساحيق التجميل الآيلة إلى زوال، في نهاية المطاف. 
ثمة مثل شعبي شائع آخر، لا يقل افتراء وتزييفاً، بل يمكن اعتباره مدرسة في السلبية والانتهازية وقلة الهمة: رافق السبع ولو أكلك. يشير المعنى المقصود إلى الثقة القصوى التي ينبغي وضعها بلا تردد في أشخاص جديرين بها، علما أن مثلا كهذا ينطوي على دعوة ضمنية للتغاضي عن الحق، مقابل منافع تحققها مرافقة السبع. يمكن أن يثير أسئلة مشروعة حول كم التنازلات المسموح تقديمها في سياق علاقتنا بالآخرين، قبل الوصول إلى مرحلة امتهان الكرامة! بل والدوس عليها في مقابل مصلحة شخصية، ولا يختلف الأمر إزاء المثل الدارج جداً، والمعمول به على نطاق واسع: "الأيد اللي ما بتقدر عليها بوسها وادع عليها بالكسر". وفي سياق شبيه: "بوس الكلب من تمه تاتاخد حاجتك منه". وكذلك المثل الشعبي الذي اتخذه بعضهم أسلوب حياة: اللي بياخذ أمي بناديه عمي". وأيضا المثل المؤسف الصادم: "حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الرو س".
تعبر هذه الأمثال الشعبية، وغيرها الكثير، عن نمط تفكير انتهازي مقيت مكرس، يحض على الإذعان والاستسلام لشروط الواقع على إجحافها. وفي العموم، تراجعت، في زماننا هذا، درجة تأثير المثل الشعبي على مستوى وعي الأفراد. تجلى هذا التراجع في تدني تأثيره على مسار تطور الحياة ومنظومة العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، على الرغم من أهميته الأرشيفية، مرجعية أخلاقية وثقافية، توثق ملامح وأسلوب حياة الجماعات الإنسانية، ومواقفها من قضايا الحياة بشكل عام. ومع التسليم بحقيقة هذا التراجع البديهي، وفقا لشرط التطور القائم على حتمية المضي نحو الجديد، غير أن المثل الشعبي ظل محتفظا لزمن ليس بعيداً بذلك الوهج لدى كثيرين، على اختلاف مستوى ثقافتهم، لما له من سطوة وقدرة على صياغة الوجدان الشعبي، لارتباطه، أحياناً كثيرة، بحكاية معينة، ما يوفر البعد الدرامي المطلوب لإحداث عنصر التشويق، علاوة على اكتسابه مشروعية التعميم، بمعنى إمكانية أن تصبح التجربة الفردية حالة عامة، تنضوي على حكمة وعظة للمجموع، ما يجعل المثل الشعبي واحداً من أهم مصادر المعرفة والتوثيق، كونه نتاج تراكم التجربة الإنسانية في العموم. ولا شك في أن مخزوننا من هذا الإرث حافل بمضامين كثيرة تبشر وتتبنى القيم الإنسانية النبيلة، من صدق وشجاعة وإخلاص وعدالة وحق وجمال وغيرها.
في المقابل، إذا تأملنا، بشكل محايد موضوعي، في مضامين بعض الأمثال الشعبية الدارجة التي نتعامل معها مسلمات غير قابلة للجدل، سوف نصطدم، عند التدقيق، بأنها حمالة أوجه، ليست شديدة الإشراق دائماً، كونها تحرّض على إجراء تسويات تتنافى مع مبدأ العدل والعدالة، وتنحاز بالضرورة للطرف القوي. من هنا، تبرز مسؤولية الباحثين في التراث في ضرورة العمل على غربلة موروثنا من الحكم والأمثال الشعبية، وتعزيز الجانب الإيجابي منها، ولا سيما أن مجتمعاتنا العربية المهزومة، المنقسمة على نفسها على الصعد كافة، قد باتت عاجزة عن إنتاج المزيد منها، في ظل وضعها الراهن، أمة متلقية بالكامل لمفردات حضارية أحادية كونية طاغية، لا تستطيع ثقافتها، بكل إرثها العريق أن تملي أو حتى أن تقترح على البشرية ما هو مختلف ومتفرد.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.