القدس مرّةً أخرى

16 يناير 2020
من القدس القديمة (Getty)
+ الخط -

صباح الخميس، الثامن من أكتوبر، يُسمح لنا بالعودة لاستكمال العلاج. كنا قلقين ومتوترين، بسبب حلول "عيد المظلة" لديهم. فقبل أن يأتي موعد هذا العيد من كل سنة، يفرضون إغلاقاً تاماً على الضفة والقطاع، ونُعزل تماماً عن الدولة العبرية.

هكذا عوّدونا منذ سنوات طويلة. لا استثناءات، ولا "حالات إنسانية" مع هذا المنع الصارم.

نحمل حقائبنا ونتوجّه للمعبر. الإجراءات ذاتها، مع تدقيق مضاعف، عن السفرة الأولى. شيء لا يتخذه إلا مَن بنفسه مرض. ومَن تجرّد من كل حدّ أدنى. إنهم ساديّون: يستمتعون بقهرنا وإذلالنا. من رئيس المعبر حتى أصغر عاملة نظافة فيه. كم هي هشّة دولتكم! تخافون من أي شيء وكل شيء. وتنسون أنكم "تتشاطرون" مع "مرضى على حافة الموت".

أُحجز لساعتين، بحجة عدم تجديد بطاقة هويتي. وأكاد أعود من حيث أتيت، لولا تساهل أحدهم في آخر لحظة، بعد شروح ورجاءات وانفعال في وصف حالتي وحالة أخي.

أخيراً يقتنع رجل "الشين بيت" (المخابرات)، بعدم خطورتي شخصياً على أمنهم. فنخرج من المبنى، وقد نشِفَ ريقنا.

يغضب أخي وينفلت: ألم أقل لك جدّد الهوية؟ كنتَ دفعتَ السبعين شيكل وأرحتنا!

- نسيت يا رجل. نسيت، فهل هي جريمة!

- عندهم كل شيء جريمة. هل اُذكّرك، وأنتَ بالذات تعرفهم أكثر مني؟

- خلص. المهم دخلنا.

نركب سيارة سوداء أنيقة، وحدنا. لا ركاب معنا. فتأخيرنا، أضاع علينا فرصة وجود ركاب آخرين، يقاسموننا الأجرة الباهظة - أقلّ من مائة دولار بقليل.

تدرج السيارة على الإسفلت. المشاهد والأماكن والمناظر ذاتها التي رأيناها في السفرة الأولى. فقط ثمة حركة نشيطة لبعض آلياتهم العسكرية: مقطورات عملاقة تحمل دبابات صغيرة، وبعض العتاد الثقيل.

طوال نصف ساعة وأنا أُحذّر السائق السبعاوي، كي يفتح عينيه وينتبه. فأقلّ تماس مع هذه الديناصورات الفولاذية، يعني موتنا... "هريسة"!

- متخفوش. يضحك السائق الشاب ويردف:

- سيارتي أجنص وخبرتي جاوزت عشر سنوات في السياقة.

- ألله يرضى عليك، دير بالك.

ندخل منطقة سهلية مفتوحة، ويواجهنا أفق هائل الاتساع. نحن على تبّة الآن. ويبدو أنّ تلك المقطورات ذهبت لمسار آخر.

نتنفس الصعداء. وتهفّ على بالي سيكارة، فأستأذن من السائق، فيرفض بلطف محذراً:

- لن يُخالفوني وحدي. سيخالفونك أنت أيضاً، فاصبر: كلها ساعة ونصل.

لا أجادل، فأنا أعرف صرامة القوانين هنا.

يحدقّ أخي بشغف، في المناظر المتتالية، ثم يهمس بأسى:

- لقد عرفوا كيف يبنون دولة من العالم الأول.

- مش زي جماعتنا!

يقهقه السائق.

- جاءوا إلينا من تونس وسواها، كلصوص لا غير. الوطن عندهم فقط محطة ترانزيت. يحملون الغالي والنفيس ويهربون.

ينفعل أخي: - أهبل من يظن أننا بناة دولة! نحن نعرف كيف نهدم لا كيف نبني.

- المشكلة في تربيتنا وثقافتنا يا أخي. المشكلة ليست فقط سياسية. ليست أشخاصاً. فما إن يركب الشخص العربي على الكرسي، حتى يُجيّر كل مقدّرات المؤسسة لصالحه الشخصي. لا توجد لدينا ثقافة تحترم أصول الخدمة العامّة والعمل العامّ...

- وماذا عن حماس؟ يسأل السائق.

- في مسألة الكرسي، حماس أخت فتح. وجهان لعملة واحدة. فالثقافة واحدة والحاضنة الاجتماعية واحدة، والعقل الجمعي واحد.

- مش معقول. ألا تتميّز عن فتح بشيء؟

- هي أنقى وأقل فساداً. أما الأمن الاجتماعي والنظام العام، فهما إنجازها الأكبر. وهي هنا عن حق، تسبق فتح بمراحل لا سنوات.

- طيب. هذا أمر جيد. فماذا يريد المواطن أكثر من الأمن والنظام؟

يتدخّل أخي:

- مصيبة فتح أنها هُلام. وأفضل تشبيه يُطابق حالتها هو المقبرة. فهي كالمقبرة: لا تردّ أحداً. تنظيم بلا نظام وبلا فكر وبلا وعي. وعليه، فمعظم أعضائها من الغوغاء! بينما أعضاء حماس متربيين ومحترمين، وحتى لو فسد واحد منهم، الحركة تعاقبه وتفرض عليه الإقامة الجبرية وتجرده من كافة صلاحياته. يحدث العكس عند فتح: الفاسد واللص والانتهازي، يرتفع أكثر ويترقّى أكثر. هم في فتح يكافئون الفاسد!

- أعرف بعض ما تقول لا كلّه. فنحن في "السَّبَع" (بئر السبع) نتابع ونهتم بما يحدث عندكم.

- إللي بيعدّ الضرب مش زي إللي بوكله.

- فساد فتح دفّعنا الغالي والرخيص. فلولا فسادها ما جاءت حماس، وما كان هذا الحصار الظالم. لقد هلكنا من شدة الحصار!

- الله يعينكم. وفوق الحصار حرب، وبعد الحرب ظلَّ الحصار.

- لولا دشر فتح، ما عشنا هالحياة الوسخة.

- سرقوا وشردوا، وخلّونا للمكت والعذاب.

نقترب من مستعمرات إسرائيلية، تحيطها مساحات زراعية كبيرة كالغابات.

يواصل أخي والسائق حوارهما الساخن، بينما أتشرّب أنا جمالات الطبيعة من حولي. فعلاً: فلسطين بلاد فاحشة الجمال. طبيعة فائقة وخضرة كثيفة، جنة على الأرض.

أعود وأنصت لكلامهم لحظة، ثم أغوص في تأمّلاتي. آه: إنّ من يحكم على طبيعة فلسطين، من خلال غزة، يظلمها. فأغلب جمال فلسطين يقبع في وسطها وشمالها. وما غزة إلا "محشر" للاجئين. ولم تكن صدفة أن تُهجّرهم "إسرائيل" إلى تلك المنطقة، التي هي ليست أكثر من شريط ساحلي ضيّق ومعزول. ولك أن تتصوّر حال هذا الشريط، حين يتّسع عنوة لأكثر من مليون ونصف المليون آدمي!

ما أجمل ما أرى! طبيعة شاسعة بسكان قليلين. فكيف تبلى هذه الطبيعة! ثم ماذا سأقول لو رأيت الجليل؟ جُلّ جمال بلادنا موجود هناك. هل أنسى حين دعاني بشير شلش لزيارتهم في الربيع؟ قال: لو زرتنا في هذا الوقت لرأيت الفردوس بأمّ عينك. ترى أين أنت الآن يا ولد يا بشير؟ كم ظلمنا شعرنا حين حصرناه بالوطني فحسب، ومن بعد: بالذاتي فحسب.

كم ظلمنا طبيعة بلادنا. لم نلتفت إليها، في غمرة مقارعتنا لهم، وفي غمرة غوصنا في ذواتنا. فأضعنا هبة لم تُعطَ لغيرنا: أضعنا وصف واستبطان واستقطار وتفنيد كل هذا النسغ الجماليّ الذي هو: الطبيعة. للأسف، غلبنا شعراءُ الجانب الآخر. هم انتبهوا لطبيعة البلاد، بكل مفرداتها وحالاتها وفصولها وأسماء نبتها وحيوانها وطيورها، فأدخلوا كل ذلك في مدونتهم الشعرية، بينما نحن اكتفينا بالذاتي والوطني وربما الوجودي، بعيداً عن أمنا الأولى وحاضنتنا الأولى وسرّنا الأول: طبيعة فلسطين!

فحالنا نحن الشعراء كحال مواطنينا: نجهل أسماء النبات والطير والحجر. نجهل ولا نحسّ بنقص حيال هذا الجهل. ففلسطين لدينا تجريد محض، أو تكاد. وطن بلا زراعة وفصول وطيور ونباتات. وطن بلا تضاريس.

اللعنة!

كلما قطعنا مسافات أكثر، أحسّ بمدى وفداحة جهلي بهذه الطبيعة الغنّاء. وبمدى وفداحة ما ينقص شعرنا من مفاتيح وأسرار. فهو شعر معزول بأسلاك عن حاضنته. ولمَ كل هذا؟ فقط لأننا كتبنا تحت إكراهاتهم ووفق أجندتهم هم. يا للهزيمة الجمالية إذن! يا للهزيمة غير المُلتَفت إليها! يا للنقص الجمالي الذي يُحيل على نقص وجودي: على نقص في البُنية التحتية لمن يريد أن يؤثث لوجوده على هذه الأرض.

ترى: كم اسم طائر تعرف يا باسم؟ كم اسم نبتة؟ كم اسم حيوان؟ كم اسم واد وجبل؟ كم اسم زهرة؟ كم اسم...؟ فالوطن ليس تجريداً. الوطن تفاصيل: الوطن بيت، غابة، طريق، منحنى صخري، زهرة على سياج، شوك في حاكورة، إلى آخره.

فهل فهمت الآن، لمَ كل هذا غائب عن شعرك؟ وهل فهمت الآن صدق مقولة "فاقد الشيء لا يعطيه"؟

لم يُعلّمنا أحد، لا في المدرسة ولا في البيت، أسماء مفردات الطبيعة من حولنا. بينما هم، المستعمِرون، ومنذ الروضة، يأخذون التلاميذ في زيارات للطبيعة المحيطة أو البعيدة، ثم تشرح لهم المعلّمة أسماء كل ما تراه أعينهم من نبات وحجر وتراب وطين.


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة، والنص حول تجربته في عام 2009

المساهمون