القانون والثورة.. تغيير النظام أم المجتمع؟

23 مايو 2018

مصريون يتظاهرون ضد وزير الدفاع السيسي في القاهرة (19/11/2013/الأناضول)

+ الخط -
عندما يثور الناس على نظامٍ ما، فإنهم في حقيقة الأمر يثورون على المجتمع الذي يجعل هذا النظام ممكناً. أي أنهم يثورون على أنفسهم، بمقدار ما يثورون على نظام الحكم. وعندما يحاولون تغيير النظام، فإنما هم يسعون إلى تغيير أنفسهم، ذلك أن علماء السياسة والاجتماع عندما يفصلون ما بين الدولة والمجتمع، أو المجتمع السياسي والمجتمع المدني، فهم يفعلون ذلك لأغراض تحليلية فحسب. لذا، من الخطأ أن نرى الدولة جسماً قائماً خارج المجتمع، بل هما وحدة لا انفصام بينهما، حتى لو كان للدولة نظامٌ ومنطقٌ خاصّانٌ بها. ذلك أن أي نظام لا يوجد في الحكم، ولا يستمر، إلا بناء على اعتماده على دعم من أطرافٍ في المجتمع، تستفيد منه أو تعتمد عليه وتدعمه. وطبيعة نظام الحكم هي، إلى درجة ما، ناتج لتصرفات الناس وسلوكهم، كانت مقاومة أم خانعة. ونرى ذلك مثلاً في الدولة العربية الحديثة التي استوعبت قطاعاتٍ واسعةً من المجتمع، خصوصاً خريجي الجامعات، بعد إقرار مجانية التعليم، عن طريق التضخم البيروقراطي.
وفي اللحظات الثورية، يصبح السؤال الحارق هو ما هو المجتمع الذي نريده ونصبو إليه؟ وبناء على ذلك، ما هو الاقتصاد الذي نريده ليخدم هذه الرؤية للمجتمع؟ وتدور كثير من هذه النقاشات بشأن القانون والدستور. حيث أن الدستور هو إحدى المناسبات التي يتطلب فيها الثوار أو الشعب إلى صياغة مطالبهم ورؤيتهم. فإذا كان للثورة أن تكون أكثر من مجرّد تمرّد وإسقاط لحاكم فرد، وأن تتحوّل إلى ثورة، فإن عليها أن تؤسس لنظام اجتماعي واقتصادي وسياسي جديد في موقع القلب منه سيادة الشعب.


ترنّح الوضع القائم ثم تكريسه
ومن المثير أنه في بداية التحركات الثورية يبدو الوضع القائم مهتزاً، وآيلاً للسقوط. وبالتالي تكون الإمكانات مفتوحةً على مصراعيها. وللحظة ما يصبح كل شيء ممكناً، وكل شيء في متناول اليد. ثم، ولأسباب عديدةٍ، يبدأ هذا الأفق المفتوح بالانغلاق تدريجياً، حتى يعود الوضع القائم إلى ما كان عليه، أو ربما أسوأ من ذلك.
ومثال ذلك أنه لفترة قصيرة بدأ الحديث في ميدان التحرير في القاهرة عن تراجع كبير في حالات التحرّش الجنسي، وعن شبابٍ يقومون بحماية النساء في الميدان، لمنع هذه التحرشات، كما قام المتظاهرون بتنظيف الميادين والشوارع، لأنهم بدأوا يتماهون مع الحيّز العام، بعد أن كانوا مغتربين عنه، ذلك أن النظام المستبد يقمعهم، ويخمد أنفاسهم في الحيز العام، وعندما يثور الناس يصبحون أسياد هذا الحيز، ويعيدون سيطرتهم عليه. في هذه اللحظات، يبدو النظام السلطوي والأبوي والذكوري مترنحاً، وعلى وشك الانهدام. ولكن بعد فترة قصيرة، عاد التحرّش الجنسي إلى الواجهة، بل ارتكب جنود الجيش المصري، في حالات عديدة، جرائم ما يسمى "كشف العذرية".
من ناحية أخرى، شهدنا بعد سقوط الأنظمة في مصر وتونس تزايدا مضطردا للمظاهرات والاعتصامات من الموظفين والعمال وأصحاب المهن في قطاعاتٍ مختلفة. ويجب عدم اختزال هذه التحركات إلى منظور الانفلات الأمني، أو عدم الاستقرار أو الفوضى، فهذه التظاهرات تعبير عن صراعاتٍ طبقية واجتماعية. وهي بالتالي تستدعي التفكير في توزيع الثروة في المجتمع، من أجل تطبيق شعار العدالة الاجتماعية، وسعياً نحو مجتمع جديد. ولكن هنا أيضًا رأينا في مصر وتونس وغيرهما محاولات سريعة للعودة إلى الوضع القائم والنظام الاقتصادي القائم تحت مسميات الاستقرار والأمن والعافية الاقتصادية. وتجلى ذلك في القوانين التي حاولت منع المظاهرات والاحتجاجات، وتقييد حرية التعبير، وكذلك في الحلّ القضائي لتنظيمات شعبية غير رسمية، حاولت الاستمرار في الحراك الشعبي. وذلك يعني تحويل الصراع الإيديولوجي إلى صراع قانوني وأمني، ومحاولة احتواء المارد الذي أطلقته الثورة عن طريق المشاركة الشعبية والتنظيم خارج مؤسسات السياسة الرسمية. كما سارعت الحكومات إلى التصالح مع رجال الأعمال الفاسدين، والاقتراض من المؤسسات المالية الدولية، وتعني هذه القروض فعلياً التخلي عن سيادة الدولة على اقتصادها لصالح هذه المؤسسات النيوليبرالية. وبذلك شابه النظام الجديد وسائل وسياسات النظام القديم.

تشظّي القانون
ولكن في كل هذه الحالات لا جدوى من الاختباء وراء شعارات مجرّدة، مثل سيادة القانون أو استقلال القضاء أو حتى سيادة الشعب. ذلك أن هذه الشعارات تنقسم بين تفسيراتٍ متناقضةٍ ومتنافسةٍ تؤدي إلى نتائج مختلفة، فالقانون مثلاً يتشظى وينقسم بين رؤىً مختلفة، بين ما هو كائن وما يمكن أن يكون، أو بين ماضيه ومستقبله. هذا واقع القانون في الحالات العادية، ولكن تناقضات القانون تزداد وضوحاً وحدّة في الحراك الثوري. ونجد في حالات عديدة أن القضاة في مصر وغيرها اضطرّوا إلى مواجهة محدوديات القانون. فهم يحكمون بعد الثورة، حتى لو نجحت، بناء على قوانين سنّ غالبيتها العظمى النظام السابق. على سبيل المثال، يواجه القاضي الفجوة بين ظاهر القانون وما يستوجبه العدل. وهنا يضطر القاضي بناءً على نظرته إلى
القانون، شكلية كانت أم معيارية إلى تفضيل القانون أو العدل أو محاولة التوفيق بينهما. نرى ذلك مثلاً في الحقوق السياسية، إذ انقسمت المحاكم المصرية حول حق رموز النظام السابق في الترشح والانتخاب. واستعملت لتبرير مواقفها مفاهيم متناقضة من سيادة الشعب، وعبّرت عن نهج قانوني مختلف أيضاً، بعضه محافظ على الشكليات وملتصق بالعموميات، يبدو فيه القاضي سلبياً بدون وكالة اجتماعية. ويبدو القانون فيه غافلاً عن حدثٍ هائل بحجم الثورة، وبعضه واعٍ للتناقض بين الحقوق والديموقراطية ومشدّد على التغيير الثوري، ويكون فيه القاضي فعّالاً للتعبير عن الثورة. وإذا كان القاضي يبدو أكثر تسييساً في النهج الثاني إلا الفرق بين النهجين، ليس في انعدام السياسة عند الأول، بل هو اختلاف في النتائج السياسية المتوخاة. لذا يجب أن لا ننخدع بمحاولات اللغة القانونية إخفاء الخيارات السياسية التي يقوم بها القضاة تحت مسمى القانون، في محاولتهم إظهار القانون منفصلاً عن السياسة.
ونجد مثالاً على ذلك أيضاً التوجهات القضائية المتعلقة بالخصخصة، حيث ألغت محاكم إدارية في مجلس الدولة المصري في السنتين التاليتين لإطاحة حسني مبارك عقود خصخصة عديدة، باع عن طريقها نظام مبارك مؤسسات القطاع العام بأبخس الأثمان، وبصفقاتٍ فاسدةٍ لرجال الأعمال، وبدون أدنى اعتبار للصالح العام. ومثال ذلك إلغاء خصخصة "عمر أفندي"، و"طنطا للكتان"، وشركة النصر للمراجل البخارية، و"شبين الكوم للغزل والنسيج". لكن النظام المصري بعد الانقلاب في يوليو/ تموز 2013، سارع إلى سنّ تشريع يحصّن بشكل تراجعي هذه العقود من الإلغاء القضائي. وبذلك نرى أنه كانت إمكانات بل محاولات في القانون المصري لتدارك الآثار النيوليبرالية المدمّرة التي انتهجها نظام مبارك، من أجل سيادة الشعب على اقتصاده. لكن القانون الذي يمكن عن طريقه تحقيق الإمكانات الثورية يستطيع أيضاً بواسطته وأد هذه الإمكانات.

مكانة النساء والنوع الاجتماعي
لا يتكلم القانون إذن بلسان واحد، بل هو مفتوح على إمكانات متعدّدة ومتناقضة، إذا توفرت الإرادة والظروف المواتية. ونجد أن الإرادة لا تتوفر عند طرح موضوع انعدام قضاة نساء في القضاء المصري. إذ نجد أن القضاة الرجال يحافظون على ذكورية القضاء، وعلى إقصاء النساء بادّعاءات غير مقنعة. من هذه الادعاءات القول إن الشريعة الإسلامية تحظر تولي النساء منصب القضاء. ولكنّ توفر آراء وفتاوى عديدين من كبار رجال الدين والمفتين التي تقول إنه لا مانع شرعياً أمام تولي المرأة منصب القضاء يبرهن على أن تفسيرات مختلفة للقانون أو للشريعة تخدم مصالح مختلفة، وتوجهات متباينة للعلاقات الاجتماعية. في هذه الحالة، يتمسّك القضاة المصريون الذكور بتفسيرٍ يحافظ على احتكارهم مناصب مهمة.
الحجة الأخرى التي يسوقها القضاة المصريون هي ساعات العمل الطويلة، وواجب المرأة نحو عائلتها. وتوضح هذه الحجة الترابط بين الاقتصادي والاجتماعي، فالردّ على هذا الادعاء هو بتوفير الدولة الدعم المالي للقاضيات من أجل توفير الحضانات ورعاية الأطفال. لكي تستطيع المرأة الخروج إلى العمل، على الدولة والقانون أن يوفرا لها البنية الملائمة التي تضمن نقطة انطلاق متساوية مع الرجال. وهذا يعني أن القانون وسياسات الدولة تصقل خيارات الناس وتحفزهم على القيام بأمرٍ ما، أو على عدم القيام به. لذلك من الخطأ القول إن المشكلة شخصية أو فردية متعلقة بالمرأة نفسها التي لا تطالب بحقها، أو لا تتقدم لوظائف ما، أو تفضل العائلة على العمل. المشكلة بنيوية ومؤسساتية، بمعنى ما هي الظروف الإجتماعية والإقتصادية التي توفرها الدولة وقانون الدولة، وإذا كانت تشجّع المرأة وتسمح لها بالخروج إلى العمل. وذلك يشمل أسئلةً مثل حماية المرأة في القانون الجنائي من الاعتداء وعدم التهاون مع المعتدين الرجال، كما يشمل ضمان المساواة في الرواتب والأجور بين المرأة والرجل اللذين يقومان بالعمل في القطاعين العام والخاص. الموضوع إذن ليس خيار المرأة (هل تريد أن تكون قاضية أم لا؟) وليس ثقافياً أو دينياً (ما موقف الشريعة) بل هو توفر السياسات والقوانين التي تمنح الإمكانات الملائمة، وتزيد من إمكانية تولي النساء مناصب قضائية أو غيرها.

ثورة على النفس
وكثيراً ما ينزع بعضهم إلى محاولة تأجيل أسئلةٍ حارقةٍ وخياراتٍ صعبةٍ تحت مسمياتٍ، مثل
أولوية السياسي على الاجتماعي، أو الخصوصية الثقافية. ولكن إذا كان فعل الثورة هو فعلاً ثورةً على النفس، بمقدار ما هو ثورة على النظام، فإن الموضوع الاجتماعي غير قابل للتأجيل أو التجاهل. ولذا يجب تداوله قبل الثورة وخلالها وبعدها، بما في ذلك مواضيع مثل مكانة الأقليات والنساء والدين والعمال والفلاحين. وللأسف، نجد تراجعاً في هذه الأمور في بعض دساتير ما بعد الثورة، فالدساتير المصرية بعد الثورة والانقلاب ألغت البند الدستوري الذي نصّ منذ ثورة يوليو 1952 على الحصّة المخصصة للعمال والفلاحين في البرلمان. كأن لا وجود لهذه الفئات بعد الثورة، أو كأن مصالحهم غير جديرة بالتمثيل، أو كأن الغموض في البند الدستوري، أو عدم تطبيقه، يحلّ بالإلغاء بدلاً من التوضيح والتطبيق الملائم. كما نجد أن الدساتير المصرية، ومنذ عام 1923، ترفض تخصيص مقاعد للأقباط تحت مسميات الوحدة الوطنية، كأن تجاهل التمثيل السياسي سيلغي الهويات القائمة على أرض الواقع، وكأن الوحدة تتمّ بمجرد تجاهل التنوع داخل المجتمع.
وبالنسبة للخصوصية الثقافية، فهي لا تتعدّى أنها، في معظم الأحيان، مجرد عذر لرفض التغيير في العلاقات الإجتماعية. فمن ناحيةٍ، كل المجتمعات تدّعي الخصوصية، وتستدعي تاريخاً وتقاليد خاصة بها. ومن ناحية ثانية، لا تتعدى الفروق بين هذه المجتمعات، في أحيانٍ كثيرة، كونها فرقاً بالدرجة لا بالنوع. ففي المجتمعات الغربية، هناك أيضاً صراعات طبقية واختلال بالعلاقات الاجتماعية، وأمثلة ذلك كثيرة، مثل ازدياد الفوارق الطبقية، والتمييز ضد النساء بالأجور، والكشف عن الاعتداءات الجنسية والاستغلال الجنسي للنساء والأطفال في مناحٍ مختلفة، مثل هوليوود والسياسة والاقتصاد والكنيسة وكرة القدم وغيرها. لذا المطلوب في المجتمعات العربية والغربية على حدّ سواء مواجهة هذه المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وصولاً إلى مجتمع عادل قائم على المساواة والعدالة. وهذا يتطلب صراعاً سياسياً ليس سهلاً، يتطلب مواجهة أولئك الذين لديهم مصلحة في استمرار الوضع القائم. ولا جدوى من الاختباء من الخيارات السياسية والاجتماعية بشأن المجتمع الذي يصبو إليه الناس، تحت مسميات الاستقرار أو القانون أو الخصوصية.
دلالات