القاع في ذاكرتي

01 يوليو 2016

كنيسة قرية القاع على الحدود السورية اللبنانية (29 يونيو/2016/Getty)

+ الخط -
في الحرب الأهلية اللبنانية، كانت الرحلة بالسيارة من بيروت إلى نهر البارد، أو العكس، تستهلك سبع ساعات، بدلاً من ساعة على الطريق الساحلية التي سيطرت عليها مليشيا الكتائب. كانت رحلتنا تبدأ من نهر البارد نحو عكّار وجبال الهرمل، ونزولاً نحو الجنوب باتجاه بعلبك، ثم شرقاً نحو رياق، وغرباً باتجاه ظهر البيدر وعاليه وسوق الغرب وبشامون وعرمون، نزولاً إلى خلدة جنوبي بيروت، ثم إلى الفاكهاني، حيث مراكز منظمة التحرير الفلسطينية.
بعد أربعة أشهر من المجزرة التي ارتكبتها القوات الخاصة السورية في قرية القاع في يونيو/حزيران 1978، كنت في رحلةٍ من نهر البارد إلى بيروت بسيارة فولكسفاغن، يرافقني شاب مسلح من نهر البارد. أوقفنا على حاجز التينة القريب من القاع عناصر من الجيش اللبناني. كان الظلام قد ساد. طلب العريف هويتي، فناولته بطاقة عسكرية فلسطينية برتبة ملازم أول، فطلب أوراق السيارة فقدمتها له، وكانت السيارة تحمل رقماً يبدأ بـ 499، وهو رقم السيارات الرسمية لمنظمة التحرير. تأكد الجندي من الأوراق ثم طلب مني النزول من السيارة فنزلت. وهنا قال لي: أريد أن أطلب منك طلباً. قلت له حاضر. فقال: لدي جنديان أتمنى أن تنقلهما معك إلى ثكنة الجيش في بعلبك سالمين، وهما أمانة في رقبتك. قلت: أعدك، سيصلان مهما كان الثمن.
جاء جنديان صغيران، وصعدا إلى المقاعد الخلفية في السيارة. وانطلقنا باتجاه بعلبك. وفي قرية اسمها النبي عثمان، فوجئنا بحاجز طيّار لمسلحين بملابس مدنية، يطلب منا التوقف، فتوقفنا. تقدّم أحد المسلحين من السيارة، وسأل عن هويتنا، فقلت له: مقاومة فلسطينية. سأل الجنديين عن اسميهما. فذكرا اسميهما: جوزيف عبدالله وسليمان عوض. هنا، طلب المسلح منهما بفظاظة النزول، فسألت بلهجة حازمة: إلى أين؟ فقال سنأخذهما! فقلت له لن تأخذ أحداً. ونزلت من السيارة، وسألت: من المسؤول عنكم هنا؟ فأتاني صوت من العتمة: أنا. فتقدّمت نحو الصوت لأجد مجموعة من المسلحين، فسألت: ما حكايتكم؟ فقال أحدهم: خطفت الكتائب أخي في زحلة واليوم وجدنا جثته في الحرش. ونريد أن نعتقل أي مسيحي ونقتله.
لم أجد، مع كثرة المسلحين وعدم معرفتي بطائفتيهما غير الحيلة. قلت لهم: نحن قادمون من نهر البارد مع الجنديين، لأن لدينا تنظيماً سرياً في الجيش، نجند عناصره وندربهم، وخصوصاً من المسيحيين، فإذا أخذتهما ستفتح معركةً مع المقاومة الفلسطينية. هنا، استسلم المسلح للأمر، وقال لنا: روحوا الله معكم. رجعت إلى السيارة لأجد الجنديين وقد قاربا الموت رعباً. انطلقنا إلى بعلبك، وأنزلتهما عند الثكنة، غير مصدقين أنهما نجيا من الموت، ومضيت ورفيقي إلى بيروت.
بعد عشرين عاماً، قرّرت، وأصدقائي محمد شمس الدين ومجدي العمري وسهام ناصر، بعد أن قصصت عليهم الحكاية، الذهاب إلى القاع لنسأل عن مصير الجنديين. وصلنا إلى القاع، وقلنا نسأل خوري الكنيسة عنهما. استقبلنا الأب أليان راعي الكنيسة بترحاب. كنت أرتجف خشيةً من أين يكون الجنديان قتلا في معركةٍ ما بأيدٍ فلسطينية. وبصوتٍ متهدج وجدتني أسرد الحكاية للخوري، فقال أعرف سليمان عوض، وهو يعيش في بيروت مع زوجته وأولاده الخمسة، كبيرهم جندي في الجيش، لكن أمه في القاع، فاتصل بها، وأخذ رقم هاتف سليمان، واتصل به، فذكّره بالحكاية، فقال: نعم يا أبونا. فقال الأب إن الرجل الفلسطيني هنا يسأل عنك. وهنا بدأ سليمان بالبكاء، وطلب مني أن أحضر فوراً إلى بيروت، وسألته عن رفيقه، فقال إنه قتل في حرب الجبل بين الجيش والدروز.
رجعنا إلى بيروت، والتقيت سليمان الذي كان ينتظرنا. وحين وقع بصره عليّ، هجم عليّ يقبلني ويبكي. ثم فجأة قال لي: كنت في خيالي عملاقاً، لكنك تبدو أقل حجماً من الصورة التي رأيتك فيها، يوم واجهت المسلحين وأنقذتنا من الموت. قلت له: ربما هو الخوف ما جعلك تراني عملاقاً.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.