القادة العراقيون والثقافة الديمقراطية

05 مارس 2020
+ الخط -
في إحدى إطلالاته التلفزيونية نهاية القرن الماضي، قال المفكر المغربي محمد عابد الجابري، رحمه الله: "إن الديمقراطية تربية". كلمات لفتت نظري، ولم أنسَها، وهي معيار يمكن أن نزن به الكثير من الحالات السياسية والثقافية في منطقتنا.

كثيراً ما يحدث أنّ أحزاباً وكيانات سياسية لم يمرّ أعضاؤها بمحطات تربوية وتوعوية في التعاطي مع الأحداث والأشخاص، مثل تقبُّل الآخر وعدم تجاوز القانون، ولا تفيد معهم البيانات ولا الأوامر الحزبية بالتعامل الهادئ المدني، فترى البون الشاسع بين القول والفعل، وتناقضاً واقعاً بين البلاغات وما يتحقق في الواقع المعيش.

هذه الملاحظة، وإن كانت ملموسة في غالبية دول منطقتنا، لكنها في العراق أكثر ما تكون واضحة. فالدستور مليء بالحقوق والحريات، لكن الانتهاكات تملأ الحياة في جميع مجالاتها... لا أقصد النظام الشمولي الذي ذهب، بل النظام الحالي الذي جاء على أنقاضه.


ومن هذا المنظور نستطيع قياس أداء شخوص القادة السياسيين، رغم أن الغالبية الساحقة منهم، جاؤوا - رجعوا - من أوروبا وأميركا، وأنهم يحملون الجنسية الغربية، ونمط حياتهم غربي، ويتحدثون لغته، لكن ثقافتهم ليست غربية في التعامل مع الفرقاء الفكريين والسياسيين، لا تقدّر تمييزهم في العمل مع الآخرين، بين الذين عاشوا في الدول العربية والإسلامية، أو الذين عاشوا في الغرب القريب والبعيد، أو مَن كانوا في الداخل خلال العقود الفارطة، لا يتميزون في الأداء، تستطيع تمييزهم فقط عند قراءة السيرة الذاتية، بأن هذا عاش في الغرب، وأن هذا خريج الكلية البريطانية أو الأميركية... إلخ، ومن هنا لم تنجح العملية الديمقراطية بالعراق في كليتها.

التربية الديمقراطية، هي التي تفسّر لنا تعثر الثورات الشعبية، ويمكن من خلالها تفسير الثورات المضادة. ورحم الله سيد قطب عندما قال إن العباد لغير الله الذين استمرأوا عبودية السادة، لا يقدرون على العيش في أجواء الحرية، لأن التربية من الصغر تفعل فعلها.

القضية هنا لا تتعلق بالشارات المرفوعة، ولا بالأسماء التي تحملها الأحزاب، ولا بالعناوين الفكرية في اللوحات التي تزين بوابات مكاتب الأحزاب السياسية، من علمانية أو ليبرالية أو حتى إسلامية. والشاهد أنه رغم ذهاب الأنظمة السلطوية في العديد من الدول، فإن الكثيرين يبحثون عنها، يحنّون إليها، ليس لسوء الحاضر، بل للتعلق الروحي بالنظام الذي كان يقمعهم، أو البحث عن شبيه له!

في العراق، وضَح أن غياب التربية الديمقراطية، والرئة التي تتنفس الديمقراطية والحرية، لم يعالجه دستور قالوا إنه كفيل بحياة حرة كريمة. والتعددية الحزبية، والانتخابات التي تشوبها كل أصناف الشوائب، هما ما نحسّ به، ما يعني أن البيئة التي تحتضن الإنسان، إن لم يواكبها تثقيف وتربية على مستوى الفرد، فإن وجود الشخص في تلك البيئة لا يفيده بشيء سوى مصالح شخصية، بمعنى توظيف الجوّ الحر لتحقيق أغراض شخصية أو فئوية.

التظاهرات التي تعمّ العاصمة بغداد ومحافظات الفرات الأوسط، كان التعامل معها منافياً لجميع المعايير الإنسانية والديمقراطية، ولم يقف مع الحكومة في تعاملها مع التظاهرات من الأحزاب الحاكمة، إلا قليل، وتبرأت منها، ونددت المنظمات الدولية بها. والغريب أن القوى الحاكمة الآن، عندما كانت تقارع النظام السابق وتستند إلى التقارير الدولية في دموية النظام، هذه القوى اليوم تردّ وتشكك بتقارير المنظمات ذاتها، عندما تدين ممارسات الحكومة التي قالوا إنها ستكون ديمقراطية بالمعيار الدولي!

التعامل المصلحي غير الحقوقي مع المنظمات الأممية في تقاريرها الموسمية، دليل على أن الشخصيات السياسية التي عاشت في الدول الغربية الديمقراطية، ليست ديمقراطية، ولم تأخذ الجرعات الكافية على المستوى النفسي والاجتماعي من الديمقراطية الدولية. فالديمقراطية تربية.