على الرغم من حضوره الجماليّ في المشهد السينمائي العربيّ، وحماسة سينمائيين عرب عديدين إزاء العمل عليه كتابة وإخراجاً ومعالجة وتنفيذاً؛ لا يزال الفيلم الروائي العربيّ القصير عاجزاً عن بلوغ شريحة كبيرة من المُشاهدين. ومع أن اهتماماً ملحوظاً به يتمّ في مهرجانات سينمائية عربية عديدة، وإنْ يكن عددها قليلاً ـ أبرزها "مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة" في مصر، و"مهرجان الفيلم العربي القصير" في بيروت، و"مهرجان طنجة للفيلم القصير المتوسطي" في المغرب مثلاً ـ إلاّ أن التواصل الثقافي ـ الفني ـ التجاريّ، الذي يُفترض به أن ينشأ بينه وبين المُشاهدين العرب، لا يزال صعباً، لأن أسباباً كثيرة تحول دون تحقيقه، لعلّ أبرزها انفضاض الغالبية الساحقة من المحطات التلفزيونية العربية عنه، كعروضٍ ونقاشاتٍ ولقاءاتٍ مع صانعيه في برامجها السينمائية؛ وعدم وجود أدنى اهتمامٍ من قِبَل الموزّعين السينمائيين وأصحاب الصالات به، لـ"قناعة" لديهم بعدم احتماله لأيّ قيمة تجارية ربحية.
مفارقات
على مستوى المهرجانات نفسها، فإنه يُمكن إيراد ملاحظات عديدة إزاء كلّ مهرجان على حدة: فـ"مهرجان الإسماعيلية" مثلاً لا يولي اهتماماً بالفيلم القصير لوحده، ولا بالفيلم العربي القصير لوحده أيضاً، إذ ينفتح على النتاجات الروائيّة القصيرة المصنوعة في شتّى أنحاء العالم، ويضعه في سياق متكامل مع أفلام التحريك والأفلام التسجيلية ـ الوثائقية، وإنْ يمتلك مسابقته الرسمية الدولية الخاصّة به. و"مهرجان طنجة" معنيٌّ بالفيلم القصير المُنتَج في دول حوض البحر الأبيض المتوسّط، أي أنه مهتمٌّ بأفلام عربية وأوروبيّة، تجد لها حضوراً تنافسياً في مسابقة دولية مفتوحة على المحليّ (المغرب) والعربي والدولي معاً. وهذا كلّه على نقيض المهرجان المُقام سنوياً في بيروت، الذي يُنظّمه "نادي لكل الناس"، إذ يؤكّد ـ دورةً تلو أخرى ـ التزاماً ثقافياً فنياً بالنتاج السينمائي العربي القصير فقط، الطالبي والاحترافي معاً، وإنْ يُخصِّص ـ في كلّ دورة ـ حيّزاً متواضعاً بأفلام طويلة لمخرجين يكونون أعضاء في لجان التحكيم مثلاً، أو ضيوفاً مُكرَّمين.
مهرجانات عربية أخرى تُفرِد مساحةً ما للفيلم القصير في دوراتها السنوية، كـ"مهرجان دبي السينمائي الدولي"، الذي يُخصِّص به مسابقتين اثنتين، هما: "المهر القصير" (أفلام عربية) و"المهر الخليجي للأفلام القصيرة". من دون تناسي الدور الذي يلعبه سابقاً "مهرجان أبوظبي السينمائي"، قبل توقّفه النهائي إثر إقامة دورته الثامنة في العام 2014، إذْ يُتيح هو أيضاً للأفلام القصيرة منافسةً في مسابقة مستقلّة، مفتوحة على النتاجين العربي والغربي.
هذا ما تُقدِّمه "أيام بيروت السينمائية"، التي تُنظّمها "جمعية بيروت دي. سي." مرّة واحدة كلّ عامين في العاصمة اللبنانية. فـ"الأيام" ـ المهتمّة أصلاً بـ"سينما عربية مستقلّة"، أي تلك القادرة على إنتاج حراكٍ بصريّ إبداعيّ حيوي، يحاول صانعوه إيجاد مسوّغاتٍ ثقافية وجمالية ودرامية له، تختلف عن السائد في صناعة السينما الطويلة والوثائقية بشكل عام ـ ترى في الفيلم القصير نتاجاً فنّياً له خصوصيته وعوالمه وتفاصيله وحيويته ولغته ومساره الإنتاجيّ، وتحاول أن تجد له سوقاً للعرض، وإنْ تواجه من أجل تحقيق هذا الأمر صعوبات شتّى، مرتبطة بنظرة السوق التجارية إلى الفيلم القصير.
مآزق
غير أن "الفيلم الروائيّ العربي القصير" يعاني مآزق تتجاوز غياب المهرجان المختصّ بنتاجاته المتنوّعة. فالتواصل الثقافي ـ الفني ـ التجاريّ بينه وبين مُشاهدين عرب محتملين صعبٌ للغاية، خصوصاً بالنسبة إلى العروض التجارية "غير المُربحة مالياً" بنظر موزّعين وأصحاب صالات كثيرين. مع هذا، فإنّ تجارب قليلة تحدث هنا وهناك في مدن عربية، بين حينٍ وآخر، متمثّلة بعروضٍ تجارية لأفلامٍ قصيرة قبل بدء عروض الأفلام الطويلة؛ إلاّ أنها (التجارب) لم تستمرّ طويلاً، فأُغلقت الأبواب التجارية أمامها. وأيضاً بالنسبة إلى الاهتمام التلفزيوني، فإن محطات قليلة للغاية تُخصِّص به مساحة زمنية متواضعة، فتعرض بعض نتاجاته، وتحاور بعض صانعيه، وتسعى إلى "تقريبه" من مُشاهد تلفزيوني لعلّه ينتبه فيهتمّ، ثم يُطالب به وإنْ عبر نسخ "دي. في. دي." أو ما يُشبهها من التقنيات الحديثة.
صحيحٌ أن مهرجانات عربية مختلفة "تتورّط" إما بالفيلم القصير لوحده، وإما بصناعة فيلمية متكاملة، يكون للفيلم القصير حصّة ما فيها. لكن مهرجانات كهذه لن تؤدّي إلى ترويجه جماهيرياً، ولن تعثر له على دروبٍ تفضي به إلى شريحة كبيرة من الناس، ولن تحرِّض مشاهدين محتملين على الاهتمام به، طالما أن وسائل التواصل الأسرع مع هؤلاء غير مكترثة به. وصحيحٌ أيضاً أن المعاهد والأكاديميات والمدارس السمعية البصرية والسينمائية في العالم العربي لا تتغاضى عنه، بل تضعه في صلب مناهجها، إلى درجة أن بعضها "يفرض" على الطلاّب تحقيق أفلام قصيرة تُصبح "أفلام تخرّج" هي أشبه ببطاقة تعريف بهم. لكن هذا يبقى محصوراً ضمن أُطر جامعية ـ أكاديمية، تثير حماسة بعض الطلاّب على الاستمرار في تحقيقه لاحقاً، من دون بلوغ المجال الأوسع للمُشاهدة.
أما بخصوص الحلّ، فهذا يبقى خارج إرادة السينمائيين والنقّاد والمهتمّين به، وخارج قدرتهم أصلاً على تحريض المسؤولين المباشرين على ترويجه جماهيرياً وتجارياً. ففي مقابل انفضاض هؤلاء الأخيرين عنه، لن يعثر "الفيلم الروائيّ العربي القصير" على مسارب توصله إلى المشاهدين، علماً أن شبيهه الغربيّ لن يكون في حال أفضل بكثير، وإنْ تختلف الثقافة السينمائية الغربية عن تلك العربية، بكونها أعمق وأكثر وعياً إزاء هذا النوع من التعبير والاشتغال والإنتاج، وأكثر اهتماماً به، ما يؤدّي إلى "منافذ تجارية" أوضح لتواصلٍ أكبر بينه وبين الجمهور.
لعلّ البعض يرى أن عرض فيلم قصير في صالة تجارية لن يكون ملائماً لطبيعة العروض في صالات كهذه. لكن المسألة يُمكن أن تتّخذ طريقة أخرى للعرض، إذ لن يكون صعباً عرض فيلم قصيرٍ واحد على الأقلّ قبل عرض فيلم روائي طويل (كما هو حاصلٌ سابقاً، أقلّه في بيروت ولأشهر مديدة). في حين أن ندرة "صالات فنّ وتجربة" في العالم العربي تُشكِّل سبباً إضافياً لـ"صعوبة" عرض الفيلم القصير. مع هذا، فإن وجود قلّة منها ـ كـ"متروبوليس أمبير صوفيل" في بيروت (بإشراف "الجمعية اللبنانية للسينما المستقلّة ـ متروبوليس سينما") و"زاوية" في القاهرة (بإدارة المنتجة المصرية ماريان خوري) ـ كفيلٌ بتأمين فسحة عرض تجاري لأكثر من فيلم قصير، دفعةً واحدة، وإنْ بشكل نادرٍ للغاية.
لكن، هل سيكون لعرضٍ كهذا جمهورٌ؟
حضور دوليّ
بالإضافة إلى ذلك كلّه، فإن فوز فيلم التحريك "موج 98" (15 دقيقة) للّبناني إيلي داغر بـ"السعفة الذهبية" الخاصّة بالفيلم القصير، في الدورة الـ68 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2015) لمهرجان "كان" السينمائي الدولي، لن يكون سبباً كافياً لدى موزّع أو صاحب صالة لتوزيعه وعرضه تجارياً، لأن لا الموزّع ولا صاحب الصالة مكترثٌ بهذا النوع، وليس فقط بالفيلم بحدّ ذاته، كموضوع وآليات اشتغال مهني احترافي إبداعي. في حين أن حصول الروائي القصير "السلام عليكِ يا مريم" (14 دقيقة) للفلسطيني باسل خليل على "ترشيحٍ رسميٍّ" لـ"أوسكار" أفضل فيلم قصير، في 14 يناير/ كانون الثاني 2016 ـ وإنْ لم ينل الجائزة في حفلة الدورة الـ88 لـ"أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية"، التي توزِّع الجوائز مساء 28 فبراير/ شباط 2016 (يحصل عليها الفيلم الإيرلندي Stutterer لسيرينا أرميتاج وبنجامن كليري) ـ لن يتيح له فرصة العرض الجماهيري أيضاً، علماً أن خليل نفسه يُعبّر عن رغبته في أن يشاهد الجمهور العربي فيلمه القصير هذا، ويقول ـ في تصريحات صحافية عديدة ـ إن "شركة ماد سولوشنز" (القاهرة) تتولّى توزيعه في العالم العربي بدءاً من مارس/ آذار 2016، وذلك في صالات عرض، وعلى شاشات قنواتٍ تلفزيونية مختلفة، وفي طائرات تابعة لشركات طيران متنوّعة: "بعد أشهرٍ قليلة، ستُتاح مُشاهدة الفيلم أيضاً عبر منصّات "العرض وفق الطلب (في. أو. دي.)"، كي يتمكّن الجمهور في كلّ أنحاء العالم من مشاهدته".
بهذا المعنى، يُمكن تأمين وسائل عرض مختلفة للفيلم القصير، وإنْ يكن خيار "عرض الطائرة" غير ملائم أبداً لكلّ فيلم روائي طويل أصلاً، مهما يكن تجارياً أو استهلاكياً، بسبب صغر حجم الشاشة، ما يؤدّي إلى الانتقاص من القيم الفنية والجمالية والتقنية المختلفة للعمل الإبداعي. لذا، فإن العمل على تحريض المحطات التلفزيونية على عرض هذا النوع السينمائي، يبقى الأهمّ، لأن الشاشات الصغيرة أكثر جماهيرية من غيرها، وأسرع تواصلاً مع المشاهدين، وأقدر على منح الفيلم القصير بعض حقّه، تجارياً وجماهيرياً وثقافياً أيضاً. في حين أن عرضه في الصالات مع أفلام قصيرة أخرى أو قبل عرض أفلام طويلة، يبقى الحلّ المهم، الأفضل والمطلوب.
"موج 98" للّبناني إيلي داغر
يعاني عُمر (الشخصية الرئيسية) آثار خيبة عارمة من بيروت، هو المقيم في إحدى ضواحيها. هذا دافعٌ إلى التوهان في أزقّتها وفضاءاتها المفتوحة على أسئلة معلّقة، تتناول العلاقة المرتبكة بالذات، بسبب ارتباك العلاقة بالمدينة والأحلام الموؤودة والتوقّعات المطلوبة.
ألوان غامقة، والتقاطٌ بديع لكادرات تكشف خفايا ذاتٍ وأناس ومدينة، وتصوير ينقضّ على بيروت من أسطح البنايات أحياناً، ويتغلغل في ثناياها ومتاهاتها أحياناً أخرى، وسردٌ يُكثّف الحكاية.
تقنية التحريك في "موج 98" متماسكة في بنائها الداخلي، وفي مساراتها الدرامية والسردية، ومتوافقة مع مزاج يهجس بسؤال المعنى، خصوصاً فيما يتعلّق بمعنى الارتباط والالتزام والهوية والغربة والمنافي الداخلية والخارجية معاً.
"السلامُ عليكِ يا مريم" للفلسطيني باسل خليل
بسبب اصطدام سيارتهم بتمثال للسيّدة العذراء على مدخل دير "راهبات الرحمة"، تُضطر عائلة يهودية، مؤلّفة من رجل متشدّد دينياً وزوجته وأمه العجوز، طلب المساعدة من راهبات نادرات الصمت. إنه يوم سبت، والمشكلة القائمة لدى الطرفين متنوّعة، إذ كيف يُعقل التواصل مع صامتات، في يوم "مقدّس" كهذا؟ وكيف يستطيع الجميع العثور على حلّ يُرضيهم؟
ليس الفيلم سرداً عادياً، بل تفكيكاً لبنى ثقافية واجتماعية ودينية لدى الطرفين، بأسلوب يمزج السخرية الجميلة بالكوميديا المرتكزة على عمق التفاصيل ومناحيها المختلفة. عمق يكشف المبطّن أو بعضه، من دون أحكام مسبقة أو إسقاطات إيديولوجية، بل بتماسك درامي وإنساني جميل.
(كاتب لبناني)
مفارقات
على مستوى المهرجانات نفسها، فإنه يُمكن إيراد ملاحظات عديدة إزاء كلّ مهرجان على حدة: فـ"مهرجان الإسماعيلية" مثلاً لا يولي اهتماماً بالفيلم القصير لوحده، ولا بالفيلم العربي القصير لوحده أيضاً، إذ ينفتح على النتاجات الروائيّة القصيرة المصنوعة في شتّى أنحاء العالم، ويضعه في سياق متكامل مع أفلام التحريك والأفلام التسجيلية ـ الوثائقية، وإنْ يمتلك مسابقته الرسمية الدولية الخاصّة به. و"مهرجان طنجة" معنيٌّ بالفيلم القصير المُنتَج في دول حوض البحر الأبيض المتوسّط، أي أنه مهتمٌّ بأفلام عربية وأوروبيّة، تجد لها حضوراً تنافسياً في مسابقة دولية مفتوحة على المحليّ (المغرب) والعربي والدولي معاً. وهذا كلّه على نقيض المهرجان المُقام سنوياً في بيروت، الذي يُنظّمه "نادي لكل الناس"، إذ يؤكّد ـ دورةً تلو أخرى ـ التزاماً ثقافياً فنياً بالنتاج السينمائي العربي القصير فقط، الطالبي والاحترافي معاً، وإنْ يُخصِّص ـ في كلّ دورة ـ حيّزاً متواضعاً بأفلام طويلة لمخرجين يكونون أعضاء في لجان التحكيم مثلاً، أو ضيوفاً مُكرَّمين.
مهرجانات عربية أخرى تُفرِد مساحةً ما للفيلم القصير في دوراتها السنوية، كـ"مهرجان دبي السينمائي الدولي"، الذي يُخصِّص به مسابقتين اثنتين، هما: "المهر القصير" (أفلام عربية) و"المهر الخليجي للأفلام القصيرة". من دون تناسي الدور الذي يلعبه سابقاً "مهرجان أبوظبي السينمائي"، قبل توقّفه النهائي إثر إقامة دورته الثامنة في العام 2014، إذْ يُتيح هو أيضاً للأفلام القصيرة منافسةً في مسابقة مستقلّة، مفتوحة على النتاجين العربي والغربي.
هذا ما تُقدِّمه "أيام بيروت السينمائية"، التي تُنظّمها "جمعية بيروت دي. سي." مرّة واحدة كلّ عامين في العاصمة اللبنانية. فـ"الأيام" ـ المهتمّة أصلاً بـ"سينما عربية مستقلّة"، أي تلك القادرة على إنتاج حراكٍ بصريّ إبداعيّ حيوي، يحاول صانعوه إيجاد مسوّغاتٍ ثقافية وجمالية ودرامية له، تختلف عن السائد في صناعة السينما الطويلة والوثائقية بشكل عام ـ ترى في الفيلم القصير نتاجاً فنّياً له خصوصيته وعوالمه وتفاصيله وحيويته ولغته ومساره الإنتاجيّ، وتحاول أن تجد له سوقاً للعرض، وإنْ تواجه من أجل تحقيق هذا الأمر صعوبات شتّى، مرتبطة بنظرة السوق التجارية إلى الفيلم القصير.
مآزق
غير أن "الفيلم الروائيّ العربي القصير" يعاني مآزق تتجاوز غياب المهرجان المختصّ بنتاجاته المتنوّعة. فالتواصل الثقافي ـ الفني ـ التجاريّ بينه وبين مُشاهدين عرب محتملين صعبٌ للغاية، خصوصاً بالنسبة إلى العروض التجارية "غير المُربحة مالياً" بنظر موزّعين وأصحاب صالات كثيرين. مع هذا، فإنّ تجارب قليلة تحدث هنا وهناك في مدن عربية، بين حينٍ وآخر، متمثّلة بعروضٍ تجارية لأفلامٍ قصيرة قبل بدء عروض الأفلام الطويلة؛ إلاّ أنها (التجارب) لم تستمرّ طويلاً، فأُغلقت الأبواب التجارية أمامها. وأيضاً بالنسبة إلى الاهتمام التلفزيوني، فإن محطات قليلة للغاية تُخصِّص به مساحة زمنية متواضعة، فتعرض بعض نتاجاته، وتحاور بعض صانعيه، وتسعى إلى "تقريبه" من مُشاهد تلفزيوني لعلّه ينتبه فيهتمّ، ثم يُطالب به وإنْ عبر نسخ "دي. في. دي." أو ما يُشبهها من التقنيات الحديثة.
صحيحٌ أن مهرجانات عربية مختلفة "تتورّط" إما بالفيلم القصير لوحده، وإما بصناعة فيلمية متكاملة، يكون للفيلم القصير حصّة ما فيها. لكن مهرجانات كهذه لن تؤدّي إلى ترويجه جماهيرياً، ولن تعثر له على دروبٍ تفضي به إلى شريحة كبيرة من الناس، ولن تحرِّض مشاهدين محتملين على الاهتمام به، طالما أن وسائل التواصل الأسرع مع هؤلاء غير مكترثة به. وصحيحٌ أيضاً أن المعاهد والأكاديميات والمدارس السمعية البصرية والسينمائية في العالم العربي لا تتغاضى عنه، بل تضعه في صلب مناهجها، إلى درجة أن بعضها "يفرض" على الطلاّب تحقيق أفلام قصيرة تُصبح "أفلام تخرّج" هي أشبه ببطاقة تعريف بهم. لكن هذا يبقى محصوراً ضمن أُطر جامعية ـ أكاديمية، تثير حماسة بعض الطلاّب على الاستمرار في تحقيقه لاحقاً، من دون بلوغ المجال الأوسع للمُشاهدة.
أما بخصوص الحلّ، فهذا يبقى خارج إرادة السينمائيين والنقّاد والمهتمّين به، وخارج قدرتهم أصلاً على تحريض المسؤولين المباشرين على ترويجه جماهيرياً وتجارياً. ففي مقابل انفضاض هؤلاء الأخيرين عنه، لن يعثر "الفيلم الروائيّ العربي القصير" على مسارب توصله إلى المشاهدين، علماً أن شبيهه الغربيّ لن يكون في حال أفضل بكثير، وإنْ تختلف الثقافة السينمائية الغربية عن تلك العربية، بكونها أعمق وأكثر وعياً إزاء هذا النوع من التعبير والاشتغال والإنتاج، وأكثر اهتماماً به، ما يؤدّي إلى "منافذ تجارية" أوضح لتواصلٍ أكبر بينه وبين الجمهور.
لعلّ البعض يرى أن عرض فيلم قصير في صالة تجارية لن يكون ملائماً لطبيعة العروض في صالات كهذه. لكن المسألة يُمكن أن تتّخذ طريقة أخرى للعرض، إذ لن يكون صعباً عرض فيلم قصيرٍ واحد على الأقلّ قبل عرض فيلم روائي طويل (كما هو حاصلٌ سابقاً، أقلّه في بيروت ولأشهر مديدة). في حين أن ندرة "صالات فنّ وتجربة" في العالم العربي تُشكِّل سبباً إضافياً لـ"صعوبة" عرض الفيلم القصير. مع هذا، فإن وجود قلّة منها ـ كـ"متروبوليس أمبير صوفيل" في بيروت (بإشراف "الجمعية اللبنانية للسينما المستقلّة ـ متروبوليس سينما") و"زاوية" في القاهرة (بإدارة المنتجة المصرية ماريان خوري) ـ كفيلٌ بتأمين فسحة عرض تجاري لأكثر من فيلم قصير، دفعةً واحدة، وإنْ بشكل نادرٍ للغاية.
لكن، هل سيكون لعرضٍ كهذا جمهورٌ؟
حضور دوليّ
بالإضافة إلى ذلك كلّه، فإن فوز فيلم التحريك "موج 98" (15 دقيقة) للّبناني إيلي داغر بـ"السعفة الذهبية" الخاصّة بالفيلم القصير، في الدورة الـ68 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2015) لمهرجان "كان" السينمائي الدولي، لن يكون سبباً كافياً لدى موزّع أو صاحب صالة لتوزيعه وعرضه تجارياً، لأن لا الموزّع ولا صاحب الصالة مكترثٌ بهذا النوع، وليس فقط بالفيلم بحدّ ذاته، كموضوع وآليات اشتغال مهني احترافي إبداعي. في حين أن حصول الروائي القصير "السلام عليكِ يا مريم" (14 دقيقة) للفلسطيني باسل خليل على "ترشيحٍ رسميٍّ" لـ"أوسكار" أفضل فيلم قصير، في 14 يناير/ كانون الثاني 2016 ـ وإنْ لم ينل الجائزة في حفلة الدورة الـ88 لـ"أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية"، التي توزِّع الجوائز مساء 28 فبراير/ شباط 2016 (يحصل عليها الفيلم الإيرلندي Stutterer لسيرينا أرميتاج وبنجامن كليري) ـ لن يتيح له فرصة العرض الجماهيري أيضاً، علماً أن خليل نفسه يُعبّر عن رغبته في أن يشاهد الجمهور العربي فيلمه القصير هذا، ويقول ـ في تصريحات صحافية عديدة ـ إن "شركة ماد سولوشنز" (القاهرة) تتولّى توزيعه في العالم العربي بدءاً من مارس/ آذار 2016، وذلك في صالات عرض، وعلى شاشات قنواتٍ تلفزيونية مختلفة، وفي طائرات تابعة لشركات طيران متنوّعة: "بعد أشهرٍ قليلة، ستُتاح مُشاهدة الفيلم أيضاً عبر منصّات "العرض وفق الطلب (في. أو. دي.)"، كي يتمكّن الجمهور في كلّ أنحاء العالم من مشاهدته".
بهذا المعنى، يُمكن تأمين وسائل عرض مختلفة للفيلم القصير، وإنْ يكن خيار "عرض الطائرة" غير ملائم أبداً لكلّ فيلم روائي طويل أصلاً، مهما يكن تجارياً أو استهلاكياً، بسبب صغر حجم الشاشة، ما يؤدّي إلى الانتقاص من القيم الفنية والجمالية والتقنية المختلفة للعمل الإبداعي. لذا، فإن العمل على تحريض المحطات التلفزيونية على عرض هذا النوع السينمائي، يبقى الأهمّ، لأن الشاشات الصغيرة أكثر جماهيرية من غيرها، وأسرع تواصلاً مع المشاهدين، وأقدر على منح الفيلم القصير بعض حقّه، تجارياً وجماهيرياً وثقافياً أيضاً. في حين أن عرضه في الصالات مع أفلام قصيرة أخرى أو قبل عرض أفلام طويلة، يبقى الحلّ المهم، الأفضل والمطلوب.
"موج 98" للّبناني إيلي داغر
يعاني عُمر (الشخصية الرئيسية) آثار خيبة عارمة من بيروت، هو المقيم في إحدى ضواحيها. هذا دافعٌ إلى التوهان في أزقّتها وفضاءاتها المفتوحة على أسئلة معلّقة، تتناول العلاقة المرتبكة بالذات، بسبب ارتباك العلاقة بالمدينة والأحلام الموؤودة والتوقّعات المطلوبة.
ألوان غامقة، والتقاطٌ بديع لكادرات تكشف خفايا ذاتٍ وأناس ومدينة، وتصوير ينقضّ على بيروت من أسطح البنايات أحياناً، ويتغلغل في ثناياها ومتاهاتها أحياناً أخرى، وسردٌ يُكثّف الحكاية.
تقنية التحريك في "موج 98" متماسكة في بنائها الداخلي، وفي مساراتها الدرامية والسردية، ومتوافقة مع مزاج يهجس بسؤال المعنى، خصوصاً فيما يتعلّق بمعنى الارتباط والالتزام والهوية والغربة والمنافي الداخلية والخارجية معاً.
"السلامُ عليكِ يا مريم" للفلسطيني باسل خليل
بسبب اصطدام سيارتهم بتمثال للسيّدة العذراء على مدخل دير "راهبات الرحمة"، تُضطر عائلة يهودية، مؤلّفة من رجل متشدّد دينياً وزوجته وأمه العجوز، طلب المساعدة من راهبات نادرات الصمت. إنه يوم سبت، والمشكلة القائمة لدى الطرفين متنوّعة، إذ كيف يُعقل التواصل مع صامتات، في يوم "مقدّس" كهذا؟ وكيف يستطيع الجميع العثور على حلّ يُرضيهم؟
ليس الفيلم سرداً عادياً، بل تفكيكاً لبنى ثقافية واجتماعية ودينية لدى الطرفين، بأسلوب يمزج السخرية الجميلة بالكوميديا المرتكزة على عمق التفاصيل ومناحيها المختلفة. عمق يكشف المبطّن أو بعضه، من دون أحكام مسبقة أو إسقاطات إيديولوجية، بل بتماسك درامي وإنساني جميل.
(كاتب لبناني)