1- يمكن، في ثلاث جمل مفتاحية، تحديد المجال الفكري الذي يتنزّل فيه كتاب "المجتمع والعقل التواصلي" لأستاذ الفلسفة النقدية الألمانية الدكتور محسن الخوني عن "مدرسة فرانكفورت". هي جمل تحيل على المعالم العلمية والفكرية والتاريخية للكتاب لكنها تضعنا أمام ضرورة اختبار إجراءاتها في فهم ما تعيشه المجتمعات العربية من حراك وما عرفته من مساع متنوعة للنهوض في ما سبق فترة استعمارها وما تلا ذلك من مراحل وأطوار.
أولى هذه الجمل منهجية تصحيحية إذ تعمل على إعادة الاعتبار للفلسفة في عالم عربي غير عابئ بها بعد أن صار مفتونا بـ"السياسة" في مستواها الحـَدَثيّ المفكَّك. يتجاوز الكتاب الفلسفةَ المتداولة في حديث الصالونات ومشاغل المدرجات التعليمية ليتعيّن في الجهد الفلسفي المفضي إلى الفهم العقلاني لما استغلق من الظواهر الإنسانية الثقافية وغير الثقافية. بهذا تكون الفلسفة شرط إمكان كل ثقافة وعماد فاعلية حقيقية لكل مجتمع. بذلك يغدو هذا الكتاب "لكل قارئ يعتقد أن التفلسف الآن في مجتمعاتنا غير الغربية ضرورة لا تقلّ إلحاحا عن طلب الصحة والغذاء".
2- ثانية الجمل المفتاحية متعلقة باستئناف البحث في نشأة "مدرسة فرانكفورت" ومقولاتها وتطورها، إذ كانت منذ تأسيسها في العقد الثاني من القرن العشرين أحد أبرز معالم الفكر الفلسفي المعاصر في الغرب. بعد كتابه الأول الصادر سنة 2009 عن "التنوير والنقد: منزلة "كانط" في مدرسة فرانكفورت" يتجه محسن الخوني في هذا الكتاب الصادر بتونس سنة 2014 عن الدار العربية للكتاب ومخبر "بحوث في التنوير والحداثة والتنوع الثقافي" لجامعة تونس-المنار لمزيد التعريف بالفلسفة الاجتماعية لـ"مدرسة فرانكفورت" وبنظريتها النقدية. مضمونيا يستوفي هذا الكتاب ما تناوله الكتاب السابق بالتركيز على منزلة "هيغل"ِ 1770-1831 الذي طبع الفكر الغربي المعاصر بكامله والمؤسس الأول للنظرية الاجتماعية وخصوصية "يورغن هابرماس" 1929 مؤسس العقل التواصلي وإتيقيا النقاش في الفضاء العمومي.
السؤال المحوري في "المجتمع والعقل التواصلي" ذو فرعين: فرعٌ مهتم بماذا أخذت "مدرسة فرانكفورت" بجيليها الأول والثاني من "هيغل" ومن "ماركس" 1818- 1883 ومن "نيتشه" 1844-1900 وفرع ثان يتفحص معالجة "هابرماس" أزمة الحداثة كما تجلت أعقاب الحرب العالمية الثانية. في هذا تبرز لنا حقيقة كبرى مصوغة في "أن التأويل الفلسفي لمصير البشر يتعيّن من منطلق أن وجودهم لا ينحصر في فرديتهم وإنما في عضويتهم الاجتماعية".
3- يتبين من هذه الحقيقة أن تعريف الحداثة وتحديد مقتضياتها وضبط إشكاليتها يؤدي إلى أنها مشغل كوني لا مناص من مباشرتها، وأن استئنافها يظل ضروريا لأن انحراف العقل عن أهدافه النقدية الأنوارية الكانطية قضية إنسانية في منتهاها ومآلاتها.
الحداثة على هذا ليست مسألة تقليد أو اقتباس أو استيعاب عقلية، إنها وإنْ استدعت امتلاك علوم ومعارف حديثة وتمثّــلا لآليات فهم ممنهج وتحليل موضوعي فإن ذلك ليس سوى شرطها اللازم. يبقى شرطها الكافي، وهو العمل لإرساء صراع سلمي وتاريخي ضمن المجتمع الواحد تتعايش فيه تعددية للأفكار والتقاليد وتنمو فيه رؤى مختلفة في فهم الماضي والتموقع في الحاضر. تلك هي الفكرة المفتاحية الثالثة التي عبّر عنها محسن الخوني بأن "الحداثة جلبت معها قيم الحريات الفردية وسلطة العقل على التقليد، وهي من القيم الإنسانية الكونية التي لا تُفرض بل تنضج وفق حركة داخلية للوعي في المجتمع". بهذا التحديد تضحي الحداثة أمراً غير مُعطًى ومكسبا غير نهائي بل هي حراك وجدل متواصلان في الفكر والواقع، وكل إهمال لهذا الحقيقة التاريخية يؤدي "عمليا إلى معاداة وعي الحداثة والانغلاق على التقليد".
مؤدى هذا أن "المجتمع والعقل التواصلي" ذو نسقين متلازمين ومتفاعلين. هو مدفوع بحركة جاذبة نحو المركز المتعلق بالفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة وخصوصية "مدرسة فرانكفورت" ونظريتها النقدية. أما الحركة الثانية فهي نابذة للباحث خارج المركز لطرح الإشكالات والمواضيع المتعلقة بالسياق العربي الإسلامي في هذه الفترة من الزمن وهذا المجتمع.
4- في انطلاق الحركة الجاذبة لدراسة محسن الخوني تتحدد الفلسفة في مغايرتها للميتافزيقا ولكل تفكير في المجردات بعيدة المنال التي تنأى عن الحياة اليومية ومستلزماتها الجماعية والمادية. ذلك أن الموضوع الصميمي للفلسفة في "مدرسة فرانكفورت" هو المجتمع الذي نظن أننا نمثل الجزء الواعي منه وأننا الأقدر على تحويله إلى مجال مفهوم وموضوع قابل للتوجيه والتسديد. الأصح أن المجتمع هو الذي يؤسس التناغم في الفرد بما يتحقق ضمن المجتمع من حراك، مما يتيح للفرد اكتشاف ذاته بوصفها مجالا أعمق وأقدر من نفسّية الفرد العادّية. بذلك يظهر الإنسان الكلي المؤسس للإنجازات الاجتماعية والمنتج للتعبيرات الثقافية الجماعية الموحّدة للمجتمع والمتجاوزة لفجاجاته وصدوعه. على هذا يكون عمل الفيلسوف تحويل المجتمع موضوعا للتفكير وموضوعا للعمل في الوقت نفسه.
في هذا المستوى تتجلى في "المجتمع والعقل التواصلي" الحركة الجاذبة بكل دقائقها، فتعرّفنا بمنطلقات الفكر الغربي الحديث ابتداء من" كانط" 1724-1804 ومسلـّمته عن كون "العقل هو أهم ملكة في الإنسان" مما دفعه إلى نقد هذا المكون الرئيس في تجلياته العلمية والعملية الأخلاقية والسياسية والفنية.
5- تتابع حركة الكتاب الجاذبة ما انخرط فيه الفكر الفلسفي الحديث بعد "كانط" مع "هيغل" التجربة الاجتماعية في التاريخ باعتباره فيلسوف الروح المطلق المتخطي فلسفة الشخصية المفردة. بهذا التخطي يتجسد العقل في المجتمع ليصبح عقلَ العالـَم المتحرك جدليا في ميدان التاريخ باعتباره ساحة صراع دائم. ذلك جعل التاريخ في العقل الهيغلي صيرورة للحرية الحقيقية للروح وللعقل المطلق الذي يتجاوز الأفراد، ويتعالى عنهم نحو المعنى الكلي للتاريخ، على الرغم من علاقته بهم.
في هذا تُستحضر مقولة "هيغل" عن روح العالم في ما كتبه سنة 1806 بعد انتصار نابليون على الجيش البروسي قائلا: نظرت إلى نابليون على صهوة جواده فرأيت روح العالم تتوسع وتمتد في التاريخ". لقد جسّد نابليون المنتصر الثورةَ الفرنسية بتمثل معانيها الاجتماعية السياسية، معبّرا بذلك عن العقل في تحققه الكامل والمتوّج لحركة التاريخ.
6-ذلك ما سيفتح المجال للفلسفة الاجتماعية كما صاغها "ماركس" متمثلا ومتجاوزا مقولة "هيغل" الجدلية الخاصة بالعقل الذي يحلّ في المجتمعات والذي تتعين معه مهمة الفيلسوف في قراءة أحداث التاريخ لحراك المجتمع. بعده سيشكك نيتشه، فيلسوف إرادة القوة، في المسلـّمات والقيم التي قامت عليها الفلسفة الكانطية والهيغلية فاتحا ثغرة في الفلسفة الأوروبية الرسمية من خلال نزعة عدمية سيعتمدها الفلاسفة القائلون بفشل مشروع الحداثة. هذا ما سيتحدد بانتصار النازية في ألمانيا ولجوء عدد من أعلام الجيل الأول من "مدرسة فرانكفورت" إلى الخارج.
في هذا الطور ظهرت مراجعات أعلام المدرسة للنظرية النقدية وللتصورات المؤسسة لمشروعهم. كان ذلك مع "ماكس هوركهايمر" 1895-1973 من مؤسسي "مدرسة فرانكفورت" ومديرها حين ألقى دروسا سنة 1941 في الولايات المتحدة عن "العقل والمجتمع" أصدرها من بعد في مؤلفه "كسوف العقل". بعده أصدر بمعية ثيودور أدورنو 1903-1969 كتابا عن "جدل التنوير" فيه نقد جذري لـ"العقل القديم" الذي أقامه كل من كانط" و"هيغل" و"ماركس" خاصة والذي انتهى إلى تجميد العقل مع النازية والستالينية إذ حوّله إلى ضده أداة منتجة للحروب ولدمار الإنسان والمجتمعات.
بهذا بلغ الجيل الأول من "مدرسة فرانكفورت" طريقا مسدودا ومصيرا مأزوما حيث صار العقل أقلّ معقولية وأعجز من أن يكون الضامن للمبادئ الإنسانية التي قام على أساسها مشروع الحداثة الغربي.
7- فرض توالي الأحداث الكبرى، على أوروبا وألمانيا خاصة، تغيرا لوجهة "مدرسة فرانكفورت" ركّزها منذ خمسينات القرن الماضي "يورغن هابرماس"، أبرز فلاسفة جيل المدرسة الثاني. كان الباب الأول من "المجتمع والعقل التواصلي" بيانا لهذا السياق التاريخي والفكري وبحثا في خصائص نشأة الفلسفة الاجتماعية مع هيغل خاصة وما أصابها من تعطل بعد ذلك مع ماركس ونيتشه. ثم جاء كل الباب الثاني من الكتاب بفصوله الثلاثة مؤكدا هذه الوجهة الجديدة للفلسفة الاجتماعية التي حددت نظرية التواصل نواةً لها. بذلك تعين صميم أطروحة "هابرماس" في ثلاثة محاور تعود إلى فلسفة "كانط" وأهمية المجتمع المدني:
- الحداثة مشروع إنساني عقلاني لم ينجز بعد.
- العقل التواصلي معيار تقييمي صالح لنقد الواقع الاجتماعي والسياسي.
- لا ديمقراطية دون فضاء عمومي يصنع فيه الفكرُ الرأيَ العام.
ما سيتميز به خصوص عمل "هابرماس" الفلسفي وزملائه من الجيل الثاني لـ"مدرسة فرانكفورت" هو أن تجاوز أزمة الحداثة لا يكون إلا عبر السند النظري الذي يربط بين العقل والواقع ولا يتصور الحقيقة حقيقة مثالية فقط. ذلك تأكد بالجمع بين الفلسفة والاجتماع والاتجاه إلى الجمهور العليم المتلقي لأفكار الفلاسفة والمثقفين والمعبر عن موقفه منها بما يتيح بناء تصور جديد للمجتمع.
عند هذا الحد يُبرز كتاب محسن الخوني حركتَه الثانية النابذة التي تنزّل مشروع "هابرماس" في السياق الفلسفي والثقافي العربي. هي سعي لوعي يراجع الواقع الفكري الحديث والمعاصر في ما اعتراه من تفاقم الفجوة الفاصلة بين فكر النخب عن عموم مجتمعاتها. لقد أفضى ذلك عربيا في أكثر من قضية إلى نوع من الفصام الذي يدفع المجتمعات إلى مبادرات عمليّة حاسمة لا صلة لها بتوجّه النخبة التي فقدت جانبا كبيرا من فاعليتها المجتمعية ووحدتها التصورية.
مشهد السنوات العربية الأخيرة تفضح تدابراً دالا على خلاف فكريّ بَيْني متعلق خاصة بالقيم وبالمشروع المجتمعي الجامع. معرفيا وثقافيا أدّى ذلك إلى الوقوف بين وعيين: وعي مفوّت ووعي شقاقي نتيجة عجز النخب عن إيجاد ساحة تواصل مع مجتمعاتها وماضيها ومشاغلها.
الأنكى هو تصدّي نخب عربية إلى تلك الفجوة الهائلة عن مجتمعاتها بالمقولة الاستئصالية سبيلا وحيدا لتحرير الجماهير لأن من "الممكن أن يكون أصحاب المصلحة في التغيير أكبر عائق أمامه".
إزاء هذا الهول الشقاقي تأتي "مدرسة فرانكفورت" لتعلن أن الحداثة تؤكد نفسها في جدلها مع تاريخها الخاص وبحوارها مع كل تجارب الحداثات السابقة عليها والمعاصرة لها.
(كاتب وأكاديمي تونسي)