مثل جميع المجالات، من الأدب إلى الفكر، يوجد مركز وأطراف في تاريخ الفن، مدن وعواصم تكاد تحتكر لنفسها معظم ما أنجزه الفنانون بل إنها تمارس جاذبية فلا تترك لهم الخيار إلا أن يكونوا تحت سقفها وإلا فهُم هامشيون في الظل. هكذا فعلت في محطات متنوّعة من تاريخ الفن مدنٌ مثل روما وباريس ولندن وبرلين ونيويورك. غير أنه عند الحديث عن "هامش" تاريخ الفن، سرعان ما تتبادر إلى الأذهان جغرافيات بعيدة عن هذه المدن، في آسيا وأفريقيا، والعالم العربي ليس استثناء في ذلك؛ في حين أن الهامش يستوعب أيضاً مدناً في أوروبا نفسها.
في معرض بـ"متحف بوتيه باليه" الباريسي، تثار مسألة الهامش من زاوية طريفة حين يجري استدعاء لوحات مجموعة من الفنانين الدنماركيين الذين عاشوا في القرن التاسع عشر. المفارقة التي يُبرزها المعرض هي أن هؤلاء عاشوا على مسافات قريبة من المدن التي كانت تحتكر الأضواء الفنية، لكن تجاربهم بقيت في الظل؛ إنهم يمثّلون حالة تسمّى بالهامش القريب نجد أثرها في كل مجالات الإبداع والمعرفة حتى داخل بلد واحد، فالذهاب بضعة كيلومترات خارج باريس أو برلين يعني الخروج من المركز أيضاً.
رغم قربهم الجغرافي من عواصم الفن بقي الدنماركيون في الهامش
يستضيف المتحف، بداية من 22 أيلول/ سبتمبر الجاري، أكثر من مئتي لوحة جُمعت من مؤسّسات مختلفة في الدنمارك والسويد أنجزت جميعها بين سنتي 1801 و1864، وهي الفترة التي تقابل صعود ظاهرة المدارس الفنية من رومنطيقية وواقعية وبدايات النزعة الانطباعية في المدن التي تعتبر عواصم الفن وقتها. تظهر في الأعمال المقدّمة بعض من تلك الإرهاصات لكن من الواضح أن الفنانين الدنماركيين كانوا مشدودين أكثر إلى روح عصر النهضة الإيطالي، فرغم التحرّر من المواضيع الدينية والميثولوجية وملامسة الحياة اليومية للشعب، ظلّ الرسامون يتوقون لإضفاء روح ملحمية على كل شيء، من لوحات البورتريه إلى لوحات المشاهد الطبيعية، لكن ضمن ذلك كانت تظهر هوية مختلفة عن كل ما يقدّم في ذلك الزمن.
من الفنانين الذين تحضر أعمالهم: كريستوفر إيكرسبيرغ، وكريستن كوبك، ومارتينوس روربي، وقسطنطين هانسن. بحسب تقديم المعرض، أعدّ المشرفون مادة توثيقية حول سِير هؤلاء خصوصاً في علاقتهم مع دولة بروسيا التي كانت أسرتها الحاكمة تحاول استقطاب الفنانين البارزين لإنتاج إشعاع ثقافي تكون برلين محوره لتنافس مدناً تسبقها على هذا الصعيد مثل فيينا وباريس وبودابيست.
بشكل عام، يمكن القول إن ما يقترحه معرض الفنانين الدنماركيين هو قراءة موازية لما يُعرف من تاريخ الفن، ففي كوبنهاغن حدثت نهضة فنية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لم ينتبه لها كثيرون فقط لأنها حدثت في كوبنهاغن.
هكذا نفهم أن الأماكن لا تسير جميعاً بنفس السرعة، كما يحدث أن تحجب المدن المتفوّقة ما كان يُنجز خارجها، وفي النهاية كان المؤرّخون والنقّاد يكتبون بحسب رغبتها جزءاً لا يستهان به من تاريخ الفن. وحتى الاعتراف ببعض التجارب الأخرى لا يتمّ - في الغالب - إلا من خلالها كحال الدنماركيين في باريس اليوم.