يحتفل متحف ”غوغينهايم“ الشهير في نيويورك بالفنانة الكولومبية، دوريس سالسيدو، عبر تسليطه الضوء على جزء كبير من الأعمال التي أنتجتها خلال العقود الثلاثة الماضية. ولقي المعرض احتفاء وصدى واسعين في الإعلام الأميركي، بالإضافة إلى زوّار المعرض الكثر. تركز سالسيدو في أعمالها على الهموم الإنسانية والمحلية في بلدها كولومبيا، لكنها تتعامل أيضًا مع هموم كونية عابرة للحدود تتعلق بأزمات اللاجئين وكيفية تعامل الدول معهم وكذلك معتقل غوانتنامو.
"أن تولد في مكان شهد الكثير من العنف، يعني أنه لا يمكنك التصرّف وكأن هذا العنف غير موجود أو قائم. لذا أظنّ أن إحدى وظائف الفنّ، خلق توازن بطريقة ما. وأي حيّز تعمل من خلاله على فنّ غير تجاري، هو حيز خارج هذا العنف، ولعلك تستطيع أن تخلق فناناً يعطي معنى ما لهذا الحيز، بحيث يساعدنا على طرح أسئلة صعبة. وقد نحاول أن نجد أجوبة لتلك الأسئلة. لكن الفن في نهاية الأمر لا يقدّم الأجوبة، إنه فقط يطرح الأسئلة". هذا ما قالته الفنانة الكولومبية دوريس سالسيدو (1958)، في مقابلة حول أعمالها في فيلم وثائقي قصير أعدّه متحف شيكاغو للفن الحديث، عندما استضافها ربيع العام الجاري، ونظّم وقتها أوّل معرض استعادي لها. وهو المعرض نفسه الذي انتقل إلى مدينة نيويورك ليحتل مساحة واسعة من قاعات متحف ”غوغنهايم“ الشهير.
لا تتعامل الفنانة الكولومبية مع موضوعة العنف الذي ذكرته بطريقة مباشرة، بل تستعمل تقنيات معقّدة وتجهيزات معبّرة تحاول من خلالها إعادة بناء "الفراغ" الذي خلّفه الدمار لحدث بعينه. وتعتمد في أعمالها ومنحوتاتها على بحوث طويلة وشهادات مباشرة لضحايا العنف. لكنها لا تسرد ذلك بتمثيلٍ مباشر للأهوال، بل من طريق إعطاء شكل لما هو غائب. فهي تفضّل أن تخلق أشياء وحيزاً لاسترجاع الماضي بهدوء، ومن أجل الحداد الجمعي. تكتب سالسيدو "إن الهمّ الوحيد لأعمالي هو ما يحدث للبشر حين ينقضّ عليهم العنف. إن ردّ الفعل الوحيد الذي يمكن أن أقدّمه إزاء الغياب الذي لا يعوّض، أن أنتج صوراً يمكن لها أن تعبّر عن النقصان والفراغ".
يشير المكتب الإعلامي لمتحف الغوغنهايم أن سالسيدو "وظّفت في بداية مسيرتها الفنية، استراتيجية تحويل الأشياء المنزليّة العاديّة إلى أدوات محمّلة بالذكريات والخطابات المطمورة". الأمر الذي تعكسه أعمال عديدة ؛ على سبيل المثال، تستعمل في عملها "بلا عنوان" (1989-90/2013) هياكل الأسرّة الطبيّة المصفوفة بشكل كئيب وعليها أحد عشر صفّاً من الثياب البيضاء النظيفة. "قد تثير الثياب عادة شعوراً بالتناسق المريح لو كانت في بيت مرتّب، لكن في هذا العمل يطعنها سيخ من الحديد تعبيراً عن الوجع والخسران العنيفين. هذه المنحوتات ردود فعل غير مباشرة على الوضع المأسوي في كولومبيا". لكن المثير في هذا التجسيد لتجربة الفقدان أنها تحاور مشاعر الزائر بحيث يصبح البياض المألوف في المستشفيات تجسيدًا لتجربة الفقدان الذي لا يمكن تعويضه، ليكتسب بذلك صدى عالمياً يعبر السياق المحلّي. ويعد هذا واحدًا من الأعمال المبكّرة لها ويحتوي أثاث المستشفى الذي تمّ تغييره بوضع أنسجة حيوانية وقطع من دمى أطفال.
أعمال للحِداد ومعتقل غوانتنامو
يقف الزائر حائراً أمام واحد من أهم أعمالها وعنوانه "أترابيلياروس" (1992- 2014). ففيه نرى مكاناً يشبه معبدًا وضعت في تجاويف جدرانه أحذية قديمة. وللوهلة الأولى تبدو وكأنها لوحات فنية لأحذية أنيقة، فبعضها يشبه أحذية راقصات الباليه. لكن سرعان ما يكتشف الزائر، عند التدقيق بالشرح، أن هذه الأعمال مخاطة بأنسجة حيوانية شفافة إلى الجدار "فلا يمكن رؤية الأحذية بشكل كامل بل تبدو وكأنها ضباب في ذكرى هاربة".
ويشمل المعرض مجموعة من أعمالها من مرحلة (1989 - 2008) وتتكون من قطع من أثاث منزلي تمّ ملؤها بالخرسانة في مشهد يولّد حزنًا، لتبدو تلك الأعمال وكأنها خرساء ومشلولة. ومن الأعمال الأخرى التي تستحضر آليات الذاكرة والحداد "بيت الأرامل" (1993 - 1995) وتجمع فيه عناصر معمارية مختلفة مع أنسجة وبقايا عظام، وعمل "اللا أرض" (1995- 1998) الذي تجمع فيع طاولات غير متناسقة وعلى سطوحها مزيج من الخيوط والشعر.
تعتني الفنّانة بكل تفصيل في أعمالها وطريقة إنتاجها. قد تبدو بعض الأعمال "بسيطة" إلا أنها تخفي وتتطلب ساعات طويلة من العمل اليدوي الذي تقوم به بنفسها أو بمساعدة فريق من العاملين والعاملات الذين يقضون ساعات طويلة في الحياكة والنحت والعمل على تطبيق مخططات أعمال الفنانة وتنفيذها. تشيع أعمال دوريس وهم البساطة والألفة لدى المتلقي. إذ إن الطاولات والأقمشة التي تبدو وكأنها مأخوذة من مواد عادية، مصنوعة جميعها بشكل يدوي تحاكي الذاكرة الفردية والجمعية للأحداث التي تتناولها الأعمال المختلفة. ويهدف أخذ المألوف وإعادة إنتاجه إلى فتح الباب أمام المشارك/ المتلقي للتعامل مع ذاكرته الفردية والجمعية في المكان الذي يعرض فيه العمل.
أما عن عملها "لا هذا ولا ذاك" الذي عُرض لأوّل مرة في لندن عام 2004، فيتناول موضوع معتقل غوانتنامو. وتقول عن ذلك "تبلورت فكرة العمل عندما بدأت أقرأ عن غوانتنامو. أردت أن أضع فيه الشعور الذي ينتابني عندما أعود إلى بيتي، فلدي جدار يحميني. ولدي حقّ في مكان داخلي خاصّ، أعيش فيه حياتي. إننا جميعًا نحتاج إلى حيّزما لكي نكون. وهكذا وضعت الشيئين مع بعضهما بعضاً. وما قمت به هو إدخال الأسلاك نفسها التي استخدمها الأميركان بالقوّة إلى جدار. فتمّ وضع ألف طن في كلّ متر مربّع من هذه القطعة لخلق هذا الغموض، في الداخل والخارج".
وتقول في الفيلم الوثائقي المرافق للمعرض "تتعامل جميع أعمالي، من دون استثناء، مع موضوع الحداد وظروف هذا الحداد على اختلاف أسبابه ومناسباته. في كلّ مرة يقتل فيها شخص، هناك فراغ يُخلق داخلنا ويجب أن نتعامل مع هذا الفراغ. وهذا أمر مهم جداً في حالة كولومبيا والدول التي يكون عدد المفقودين فيها بالآلاف، وحيث تُكتشف القبور الجماعية بشكل دائم ويومي. إن مراسم الحداد والجنازات في تلك الأماكن التي تعيد الإنسانية للمفقود، هي بدورها مفقودة. ولذلك علينا أن نضعها ونعيد وتكوينها. وهذه إحدى المهام التي أعمل عليها، بل إنها مهمتي".
وفي هذا السياق يمكننا قراءة اثنين من تجهيزات الفنانة الأخيرة التي ترتكز على رمزية المأتم، لكنها تتقاطع مع فكرة السحر. في "صلاة صامتة" (2008 - 2010) يحاط المتفرجون بمتاهة من طاولات، الواحدة موضوعة فوق الأخرى بشكل معكوس وينبت من خلالها عشب حقيقي ؛ "ويقارب حجم الطاولات حجم الأجساد البشرية. والعمل يستحضر القبور الجماعية والسطوح الخضراء التي تشير إلى قدرة الطبيعة على الشفاء والمحو في الوقت ذاته".
أما عملها ”تحت البشرة“ (2012) فعبارة عن كفن ضخمٍ تمّ نسجه تخليداً لذكرى ممرضّة عُذبت وقُتلت في كولومبيا. النسيج المرفرف مصنوع من بتلات ورود حُفظت كيمياوياً. وهي مادة تحيل إلى خطاب رومانسي، لكنها تقلّد في الوقت ذاته شكل الجلد المسلوخ. ونجد هذه الثنائية بين الرعب والجمال الهشّ في أحد آخر أعمالها "لم يتم تذكره" (2014)، وهو مجموعة ثياب منسوجة من خيوط حرير وإبر محروقة، وهي بذلك تؤذي من يرتديها بدلاً من أن تريحه أو تقيه. وهنا يتحول المألوف والمريح إلى مصدر تعب وإرهاق.
فيلم المعرض
يتضمن المعرض فيلماً وثائقياً قصيراً عن المشاريع العامة والأعمال التي نفّذتها الفنانة في أمكنة عامّة، خلال الخمس عشرة سنة الماضية، وهو الفيلم الذي أنتجه متحف شيكاغو للفن المعاصر. ويتحدث الفيلم عن أعمال أيقونية، مثل تلك التي نفذّتها في "بلازا دي بوليفار" في بوغوتا، وقاعة "فورباين" في غاليري تيت في لندن، ويتناول قضية غوانتنامو والأسرى الذين تم وضعهم ولسنوات من دون محاكمة أو أي ذنب ارتبكوه. ويعرض الفيلم الذي يحمل عنوان "أعمال دورس سيلسدو" (2015، 25 دقيقة) طوال المعرض في الطابق الأول في مسرح "نيو ميديا".
الذاكرة بكل تفاصيلها وفراغاتها، إذن نواة عملها كما تقول، لأن فقدانها يعني عدم المقدرة على التكيّف والعيش في الحاضر والعجز عن بناء المستقبل. وهذا ينعكس ويتجلى في الأعمال العديدة المعروضة في نيويورك.
لا تراهن الفنانة الكولومبية على أن الفن يمكن أن يغيّر حيوات ضحايا العنف أو حيوات الناجين بحادثة بعينها يتناولها عمل ما. كما أنها لا ترى أنها بفنها تساعد بشكل مباشر ضحايا هذه المجزرة أو تلك، لكنها في الوقت ذاته تعيد الضحايا إلى الحيز/ المكان، بعد الفراغ الذي تركوه في داخلنا كأفراد أو في ذاكرتنا الجمعية. تراهن إذن على الحوار وتأثير الفنّ في المتلقي "الغريب" الذي يتعامل بدوره مع ذاكرته هو وبذلك قد يترك العمل الفني لديه تأثيراً ما.
"أن تولد في مكان شهد الكثير من العنف، يعني أنه لا يمكنك التصرّف وكأن هذا العنف غير موجود أو قائم. لذا أظنّ أن إحدى وظائف الفنّ، خلق توازن بطريقة ما. وأي حيّز تعمل من خلاله على فنّ غير تجاري، هو حيز خارج هذا العنف، ولعلك تستطيع أن تخلق فناناً يعطي معنى ما لهذا الحيز، بحيث يساعدنا على طرح أسئلة صعبة. وقد نحاول أن نجد أجوبة لتلك الأسئلة. لكن الفن في نهاية الأمر لا يقدّم الأجوبة، إنه فقط يطرح الأسئلة". هذا ما قالته الفنانة الكولومبية دوريس سالسيدو (1958)، في مقابلة حول أعمالها في فيلم وثائقي قصير أعدّه متحف شيكاغو للفن الحديث، عندما استضافها ربيع العام الجاري، ونظّم وقتها أوّل معرض استعادي لها. وهو المعرض نفسه الذي انتقل إلى مدينة نيويورك ليحتل مساحة واسعة من قاعات متحف ”غوغنهايم“ الشهير.
لا تتعامل الفنانة الكولومبية مع موضوعة العنف الذي ذكرته بطريقة مباشرة، بل تستعمل تقنيات معقّدة وتجهيزات معبّرة تحاول من خلالها إعادة بناء "الفراغ" الذي خلّفه الدمار لحدث بعينه. وتعتمد في أعمالها ومنحوتاتها على بحوث طويلة وشهادات مباشرة لضحايا العنف. لكنها لا تسرد ذلك بتمثيلٍ مباشر للأهوال، بل من طريق إعطاء شكل لما هو غائب. فهي تفضّل أن تخلق أشياء وحيزاً لاسترجاع الماضي بهدوء، ومن أجل الحداد الجمعي. تكتب سالسيدو "إن الهمّ الوحيد لأعمالي هو ما يحدث للبشر حين ينقضّ عليهم العنف. إن ردّ الفعل الوحيد الذي يمكن أن أقدّمه إزاء الغياب الذي لا يعوّض، أن أنتج صوراً يمكن لها أن تعبّر عن النقصان والفراغ".
يشير المكتب الإعلامي لمتحف الغوغنهايم أن سالسيدو "وظّفت في بداية مسيرتها الفنية، استراتيجية تحويل الأشياء المنزليّة العاديّة إلى أدوات محمّلة بالذكريات والخطابات المطمورة". الأمر الذي تعكسه أعمال عديدة ؛ على سبيل المثال، تستعمل في عملها "بلا عنوان" (1989-90/2013) هياكل الأسرّة الطبيّة المصفوفة بشكل كئيب وعليها أحد عشر صفّاً من الثياب البيضاء النظيفة. "قد تثير الثياب عادة شعوراً بالتناسق المريح لو كانت في بيت مرتّب، لكن في هذا العمل يطعنها سيخ من الحديد تعبيراً عن الوجع والخسران العنيفين. هذه المنحوتات ردود فعل غير مباشرة على الوضع المأسوي في كولومبيا". لكن المثير في هذا التجسيد لتجربة الفقدان أنها تحاور مشاعر الزائر بحيث يصبح البياض المألوف في المستشفيات تجسيدًا لتجربة الفقدان الذي لا يمكن تعويضه، ليكتسب بذلك صدى عالمياً يعبر السياق المحلّي. ويعد هذا واحدًا من الأعمال المبكّرة لها ويحتوي أثاث المستشفى الذي تمّ تغييره بوضع أنسجة حيوانية وقطع من دمى أطفال.
أعمال للحِداد ومعتقل غوانتنامو
يقف الزائر حائراً أمام واحد من أهم أعمالها وعنوانه "أترابيلياروس" (1992- 2014). ففيه نرى مكاناً يشبه معبدًا وضعت في تجاويف جدرانه أحذية قديمة. وللوهلة الأولى تبدو وكأنها لوحات فنية لأحذية أنيقة، فبعضها يشبه أحذية راقصات الباليه. لكن سرعان ما يكتشف الزائر، عند التدقيق بالشرح، أن هذه الأعمال مخاطة بأنسجة حيوانية شفافة إلى الجدار "فلا يمكن رؤية الأحذية بشكل كامل بل تبدو وكأنها ضباب في ذكرى هاربة".
ويشمل المعرض مجموعة من أعمالها من مرحلة (1989 - 2008) وتتكون من قطع من أثاث منزلي تمّ ملؤها بالخرسانة في مشهد يولّد حزنًا، لتبدو تلك الأعمال وكأنها خرساء ومشلولة. ومن الأعمال الأخرى التي تستحضر آليات الذاكرة والحداد "بيت الأرامل" (1993 - 1995) وتجمع فيه عناصر معمارية مختلفة مع أنسجة وبقايا عظام، وعمل "اللا أرض" (1995- 1998) الذي تجمع فيع طاولات غير متناسقة وعلى سطوحها مزيج من الخيوط والشعر.
تعتني الفنّانة بكل تفصيل في أعمالها وطريقة إنتاجها. قد تبدو بعض الأعمال "بسيطة" إلا أنها تخفي وتتطلب ساعات طويلة من العمل اليدوي الذي تقوم به بنفسها أو بمساعدة فريق من العاملين والعاملات الذين يقضون ساعات طويلة في الحياكة والنحت والعمل على تطبيق مخططات أعمال الفنانة وتنفيذها. تشيع أعمال دوريس وهم البساطة والألفة لدى المتلقي. إذ إن الطاولات والأقمشة التي تبدو وكأنها مأخوذة من مواد عادية، مصنوعة جميعها بشكل يدوي تحاكي الذاكرة الفردية والجمعية للأحداث التي تتناولها الأعمال المختلفة. ويهدف أخذ المألوف وإعادة إنتاجه إلى فتح الباب أمام المشارك/ المتلقي للتعامل مع ذاكرته الفردية والجمعية في المكان الذي يعرض فيه العمل.
أما عن عملها "لا هذا ولا ذاك" الذي عُرض لأوّل مرة في لندن عام 2004، فيتناول موضوع معتقل غوانتنامو. وتقول عن ذلك "تبلورت فكرة العمل عندما بدأت أقرأ عن غوانتنامو. أردت أن أضع فيه الشعور الذي ينتابني عندما أعود إلى بيتي، فلدي جدار يحميني. ولدي حقّ في مكان داخلي خاصّ، أعيش فيه حياتي. إننا جميعًا نحتاج إلى حيّزما لكي نكون. وهكذا وضعت الشيئين مع بعضهما بعضاً. وما قمت به هو إدخال الأسلاك نفسها التي استخدمها الأميركان بالقوّة إلى جدار. فتمّ وضع ألف طن في كلّ متر مربّع من هذه القطعة لخلق هذا الغموض، في الداخل والخارج".
وتقول في الفيلم الوثائقي المرافق للمعرض "تتعامل جميع أعمالي، من دون استثناء، مع موضوع الحداد وظروف هذا الحداد على اختلاف أسبابه ومناسباته. في كلّ مرة يقتل فيها شخص، هناك فراغ يُخلق داخلنا ويجب أن نتعامل مع هذا الفراغ. وهذا أمر مهم جداً في حالة كولومبيا والدول التي يكون عدد المفقودين فيها بالآلاف، وحيث تُكتشف القبور الجماعية بشكل دائم ويومي. إن مراسم الحداد والجنازات في تلك الأماكن التي تعيد الإنسانية للمفقود، هي بدورها مفقودة. ولذلك علينا أن نضعها ونعيد وتكوينها. وهذه إحدى المهام التي أعمل عليها، بل إنها مهمتي".
وفي هذا السياق يمكننا قراءة اثنين من تجهيزات الفنانة الأخيرة التي ترتكز على رمزية المأتم، لكنها تتقاطع مع فكرة السحر. في "صلاة صامتة" (2008 - 2010) يحاط المتفرجون بمتاهة من طاولات، الواحدة موضوعة فوق الأخرى بشكل معكوس وينبت من خلالها عشب حقيقي ؛ "ويقارب حجم الطاولات حجم الأجساد البشرية. والعمل يستحضر القبور الجماعية والسطوح الخضراء التي تشير إلى قدرة الطبيعة على الشفاء والمحو في الوقت ذاته".
أما عملها ”تحت البشرة“ (2012) فعبارة عن كفن ضخمٍ تمّ نسجه تخليداً لذكرى ممرضّة عُذبت وقُتلت في كولومبيا. النسيج المرفرف مصنوع من بتلات ورود حُفظت كيمياوياً. وهي مادة تحيل إلى خطاب رومانسي، لكنها تقلّد في الوقت ذاته شكل الجلد المسلوخ. ونجد هذه الثنائية بين الرعب والجمال الهشّ في أحد آخر أعمالها "لم يتم تذكره" (2014)، وهو مجموعة ثياب منسوجة من خيوط حرير وإبر محروقة، وهي بذلك تؤذي من يرتديها بدلاً من أن تريحه أو تقيه. وهنا يتحول المألوف والمريح إلى مصدر تعب وإرهاق.
فيلم المعرض
يتضمن المعرض فيلماً وثائقياً قصيراً عن المشاريع العامة والأعمال التي نفّذتها الفنانة في أمكنة عامّة، خلال الخمس عشرة سنة الماضية، وهو الفيلم الذي أنتجه متحف شيكاغو للفن المعاصر. ويتحدث الفيلم عن أعمال أيقونية، مثل تلك التي نفذّتها في "بلازا دي بوليفار" في بوغوتا، وقاعة "فورباين" في غاليري تيت في لندن، ويتناول قضية غوانتنامو والأسرى الذين تم وضعهم ولسنوات من دون محاكمة أو أي ذنب ارتبكوه. ويعرض الفيلم الذي يحمل عنوان "أعمال دورس سيلسدو" (2015، 25 دقيقة) طوال المعرض في الطابق الأول في مسرح "نيو ميديا".
الذاكرة بكل تفاصيلها وفراغاتها، إذن نواة عملها كما تقول، لأن فقدانها يعني عدم المقدرة على التكيّف والعيش في الحاضر والعجز عن بناء المستقبل. وهذا ينعكس ويتجلى في الأعمال العديدة المعروضة في نيويورك.
لا تراهن الفنانة الكولومبية على أن الفن يمكن أن يغيّر حيوات ضحايا العنف أو حيوات الناجين بحادثة بعينها يتناولها عمل ما. كما أنها لا ترى أنها بفنها تساعد بشكل مباشر ضحايا هذه المجزرة أو تلك، لكنها في الوقت ذاته تعيد الضحايا إلى الحيز/ المكان، بعد الفراغ الذي تركوه في داخلنا كأفراد أو في ذاكرتنا الجمعية. تراهن إذن على الحوار وتأثير الفنّ في المتلقي "الغريب" الذي يتعامل بدوره مع ذاكرته هو وبذلك قد يترك العمل الفني لديه تأثيراً ما.