أنْ تكون مسيحي الديانة، مسلم الهوى، فلسطيني الهوية، فتحاوي الانتماء، فلن تجد ذلك إلا في القدس حيث تحتضن المدينة المحتلة بين أسوارها أبناءها من مسيحيين ومسلمين في نسيج وطني فريد لا يعترف إلا بهويته الوطنية الفلسطينية، بل ويذهب إلى أبعد من ذلك بعلاقات نسب ومصاهرة، وشعور وطني واحد.
هذا ما تجسده عائلة الفلسطيني وليم قاقيش، من عقبة البطيخ في البلدة القديمة من القدس المحتلة، والتي شهدت الخميس 22 سبتمبر/أيلول الماضي حدثاً مهماً في حياتها. فقد أصدرت محكمة إسرائيلية حكماً بالسجن الفعلي لمدة تسع سنوات على نجل وليم، جون قاقيش (21 عاماً)، بتهمة طعن مستوطنين نهاية العام الماضي.
ذات يوم، اعتدى جنود الاحتلال على إحدى خالاته وهي من المرابطات في المسجد الأقصى، وأصيبت بجروح متفاوتة. فلم يسيطر على مشاعر الغضب التي اجتاحته، لكنه اعتقل بعد ذلك، ووجهت له تهمة طعن مستوطنين "كانوا في طريقهم للصلاة" كما أبلغه المحققون بذلك. وعلى الرغم من نفيه التهمة عوقب وحكم عليه".
في الواقع، أسرة قاقيش هي نتاج زواج مختلط من أب مسيحي وأم مسلمة. ويقول وليم: "نحن هنا في القدس لا فرق بين مسيحي ومسلم. ماذا يعني أن تكون مسيحياً وأن يكون جارك مسلماً وكلانا نعاني الاحتلال والقمع ذاته. كل هذا لم يمنع أن تكون بيننا علاقة مصاهرة"، وفق تعبيره.
ويروي والد جون، أن محققي الاحتلال، وجهوا لنجله لحظة اعتقاله تهمة الانتماء إلى حركة الجهاد الإسلامي. يضحك وليم لهذه التهمة ويتساءل ساخراً: "مسيحي وجهاد إسلامي، كيف يكون ذلك يا حضرة المحقق؟". مع ذلك كان جون لا يتورع عن مجاهرته بدينه المسيحي، وبهواه كمسلم، وكان يفاخر على الدوام بأبناء شعبه من جميع الأطياف السياسية، ومن كل فصائل المقاومة. صحيح أنه ينتمي إلى حركة فتح، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يكون فلسطينياً وطنياً. وفي غرفته الصغيرة التي اقتحمتها قوات الاحتلال وعثرت فيها على أعلام لفلسطين والجهاد الإسلامي ولفصائل أخرى، كانت راية "الجهاد" وحدها كافية لأن يتهم بانتمائه لهذا الفصيل الفلسطيني المقاوم.
كان جون، كما تقول والدته، لا يترك مناسبة وطنية أو دينية مسيحية أو إسلامية إلا ويشارك فيها. وكان له حضور في كل المسيرات الدينية التقليدية إلى كنيسة القيامة. وفي شهر رمضان كان يشارك أبناء شعبه من المسلمين في تزيين الحارات بأضواء الزينة، وفي إحياء ليالي وسهرات رمضان. وكان جنباً إلى جنب مع رفاقه في ساحات المسجد الأقصى يوزع وجبات الفطور على الصائمين.
ما يتذكره والد جون أيضاً، لحظة إحضار نجله إلى المحكمة، أنه "كان محاطاً بكثير من الجنود، وبالكاد أمكنني الحديث معه، قبل أن يبادرني بالقول: والدي ارفع رأسك"، في ما يعكس المعنويات العالية التي يتمتع بها هذا الأسير الفلسطيني الجديد.
وفي سجن جلبوع (شمال الضفة الغربية)، ينوي جون متابعة دراسته الجامعية في "القدس المفتوحة". يريد أن يتخصص بالعلوم السياسية، وهو جاد في دراسته ويأمل أن يخرج من سجنه وقد اجتاز مرحلة مهمة من تعليمه العالي. بمعنى آخر، يريد إكمال تحصيله العلمي دون أن تضيع منه آماله وأحلامه. لم تنته حياة جون بسجنه هذه الفترة الطويلة كما تقول عائلته التي تنتظر زيارة قريبة له في سجنه، هي الأولى منذ أن صدر الحكم بحقه الخميس الماضي.
وكانت والدته على موعد، في يوم المحكمة، مع عملية جراحية (قلب مفتوح)، وكان لا بد من أن تجريها. وكان هناك خوف على مصيرها في ظل هذا الوضع. مع ذلك، آثرت أن تجرى لها العملية، وهي تنتظر الآن زيارة موعودة لنجلها في المعتقل الإسرائيلي، على وقع معنويات مرتفعة طبعاً، لكنها ممزوجة بمعاناة الأسر.