بخطى ثقيلة، يرفع الشيخ محمد علي، قدميه ليحط بهما على درج عيادة طبيب الأمراض الصدرية بوسط القاهرة، بمساعدة ابنه الذي قدِم معه من محافظة قنا جنوبي مصر.
لم يكن الشيخ الذي بلغ من العمر خمسة وسبعين عاما، يدرك أن دولته التي همّشته وأهله في جنوب البلاد طيلة عقود، تتوعده برحلة أكثر قسوة مع رحلة علاج ودواء لا تتوفر لوازمها للفقراء أمثاله.
ويروي ابنه محمود، الذي يعمل بائعا للخضار والفاكهة في القاهرة، قصة والده المصاب بفيروس سي الكبدي الوبائي منذ عامين، حيث اضطر لجلبه معه إلى العاصمة، التي يتوفر فيها أطباء ومراكز طبية، لا يعرف ملايين السكان في جنوب مصر مثلها.
وقال محمود، في حديث مع مراسل "العربي الجديد" بالقاهرة، "وضعت اسم أبي على قوائم المنتظرين لعقار سوفالدي الجديد، لا حل آخر في ظل ارتفاع أسعار الأدوية ومراكز العلاج. لكنه بدأ مؤخرا يشعر بضيق شديد في التنفس ففضلت أن أصحبه إلى الطبيب لمعرفة السبب".
وتبلغ تكلفة الكشف لدى طبيب الأمراض الصدرية الذي يزوره محمود وأبوه الشيخ، 250 جنيها (33 دولارا)، فضلا عن 30 جنيها يدفعها للممرض خارج الحساب، مقابل وضع اسم المريض في مركز متقدم بقائمة المرضى المنتظرين.
وأضاف محمود: "أبي يتابع عند طبيب آخر مختص بأمراض الكبد وتكلفة الكشف 350 جنيها. هذه القيمة تعادل دخلي لمدة أسبوع كامل. نضطر في غالب الأحيان لعدم الذهاب للطبيب أو التخلف عن تناول الدواء، لقلة الأموال. كثيرا ما نكتفي بالذهاب للطبيب مرة واحدة شهريا للمتابعة، ندخر ثمنها من مصروفات الأكل والملبس".
وحول دعم الدولة لوالده الطاعن في السن، قال "الحكومة توفر لأبي معاش ضمان اجتماعي 320 جنيها في الشهر (44 دولارا) هذا بالكاد يكفي لمتابعة الطبيب مرة واحدة".
وتحدد وزارة التخطيط في مصر، خط الفقر العادي للفرد عند 314 جنيها شهريا، والفقر المدقع 214 جنيها في الشهر.
ويصمت محمود للحظات، ثم يصرف نظره إلى الأرض، قائلا: "يا رب تكون أزمة خفيفة وتعدي، مفيش فلوس نجيب علاج لأمراض تانية".
ورفعت الحكومة المصرية مخصصات التأمين الصحي والأدوية إلى 800 مليون جنيه، مقابل 711 مليونا خلال العام المالي الماضي.
ووفقا لأحدث تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، فإن نفقات المصريين على العلاج تمثل 13% من إجمالي دخلهم السنوي.
وقال الدكتور محمود فؤاد، رئيس مركز الحق في الدواء: إن المواطن المصري يتحمل ثلثي تكلفة علاجه في حين تتحمل الحكومة الثلث المتبقي.
وأضاف أن 50% مما يتحمله المواطن من تكلفة العلاج يذهب إلى الأدوية، وهي نسبة كبيرة مقارنة بدول ظروفها مشابهة لمصر مثل اليمن وتونس ولبنان.
وقال إن شركات الأدوية العاملة في مصر تضغط على الحكومة في الوقت الحالي لرفع أسعار الأدوية، مما يحد من قدرة المواطنين على شراء الدواء.
وأضاف: "مصر سوق كبير وفيه ملايين المواطنين المصابين بأمراض مزمنة، وللأسف شركات الأدوية تعتبر هذه البيئة مناخا جيدا للاستثمار".
وتبلغ مبيعات الأدوية في مصر، نحو 33 مليار جنيه سنويا (4.4 مليارات دولار) وتسجل نموا سنويا بحدود 15%، في حين تبلغ الاستثمارات في القطاع نحو 814 مليار جنيه، وفق فؤاد.
ورصدت الحكومة نحو 42.4 مليار جنيه لوزارة الصحة خلال العام المالي الجاري 2014 /2015، مقابل 33.5 مليار جنيه. غير أن أغلب هذه المخصصات يذهب لأجور العاملين بالقطاع.
وأوضح رئيس مركز الحق في الدواء أن 37 مليار جنيه من مخصصات الصحة يذهب للأجور، مقابل مخصصات بنحو خمسة مليارات جنيه لصالح الاستثمارات ومشروعات العلاج وتطوير وصيانة المستشفيات، وهي حصة منخفضة للغاية ولا تمثل أي تحرك باتجاه جودة الخدمات الصحية في مصر".
وقال الدكتور محمد عادل، الأمين العام لمؤسسة مؤشر الديمقراطية (مدنية) إن أزمة الدواء والعلاج ترجع في الأساس لعدم وضع حد أدني للأجر سواء في القطاع الخاص أو الحكومي، يتناسب مع معدلات التضخم.
وأضاف "طلبنا أن يكون هناك حد أدنى للأجور لمختلف العمال بالدولة، وتم تحديده بداية العام الجاري بـ 1200 جنيه، وفقا لمؤشرات الأسعار في 2008".
ويرى أن الحكومة لا تزال تحتسب الفقير دون حد إنفاق دولارين في اليوم في حين يتجاوز الـ 5 دولارات في الوقت الحالي، ومع تزايد الأسعار يتأقلم المصريون مع الوضع "ليس أمامهم سوى التأقلم".
(الدولار الأميركي يساوي 7.63 جنيهات مصرية)