رافقت الطفلة ياسمين التي لم تكن تبلغ من العمر أكثر من ثلاثة أعوام، والدتها لـرعي الأغنام. كانت تمرح كعادتها وتركض بين الحقول في منطقتها المنسية والمهمشة في الرميلة الواقعة في نفزة بمحافظة باجة، شمال تونس، وكانت سعيدة وهي تلعب فوق التلال بشعرها الأشقر الذهبي الذي تداعبه الريح. فجأة تغيرت السماء وهطلت الأمطار، بات الطقس كئيباً وكأنّه يستعد لوداع قريب، لوداع ياسمين التي رحلت عن الحياة بعدما ارتفعت حرارتها وعجزت والدتها عن إسعافها وإنقاذها.
تقول والدتها حميدة الصالحي لـ"العربي الجديد": "ما حصل أنّ طفلتي الصغيرة ابتلت بالأمطار، وبالرغم من أنّها معتادة على مثل هذا الطقس إلاّ أنّ جسدها الصغير لم يصمد طويلاً، وعندما وصلنا إلى البيت كانت مرحة أكثر من المعتاد، واستمرت في اللهو مع أشقائها. وبالفعل، تناولنا العشاء وضحكنا معها هي التي أدخلت بابتسامتها الرقيقة الفرحة إلى البيت". تضيف: "لا أحد في إمكانه أن يصدق أنّها لم تعد بيننا، لقد رحلت ياسمين إلى الأبد، ولم أستطع أن أفعل أيّ شيء أكثر من انتظار شروق شمس اليوم التالي، وكم كانت يومها ساعات الليل طويلة، بل بدت تمضي كأنّها بلا نهاية على الإطلاق".
مثل عائلتها، عاشت ياسمين في منطقة مهمشة، وفي بيت متواضع ولدت فيه وهو يفتقر إلى أبسط الضروريات. نشأت وسط أسرة فقيرة مع شقيقتها التوأم يقين. منذ ولادتهما شهدت الطفلتان أقسى أنواع الحرمان. لم تكن حميدة تجد لهما الحفاظات أو الحليب حتى، فكانت تناشد المسؤولين الجهويين مدها ببعض المساعدات الغذائية. وكانت تبقى طوال ساعات أحياناً في انتظار ردّ غالباً ما يكون قاسياً وممزوجاً بالرفض. نادراً ما ساعدها المسؤولون، بل رفضوا مراراً استقبالها في مركز المعتمدية حتى.
عاشت حميدة من رعي الأغنام واعتادت أخذ أطفالها معها إلى المرعى، فزوجها يعمل في العاصمة التونسية في مجال البناء ويزورهم كلّ ثلاثة أشهر لتأمين القوت. يوم الحادثة احتارت حميدة في من سيرافقها من أبنائها، فتركت يقين مع ابنها الأكبر بيرم (10 أعوام) واختارت أن تأخذ ياسمين معها ويبقى ياسين (6 أعوام) مع شقيقه وشقيقته في المنزل. تقول إنّهم جميعاً متأقلمون مع ظروف الحياة على هذه الحال، فقد كانوا دائماً في صراع مرير من أجل تأمين القوت.
اقــرأ أيضاً
نادراً ما كانت الأم تقصد مدينة نفزة وسوقها الأسبوعي لقضاء شأن ما للأسرة، إذ يتعين عليها البحث عن وسيلة نقل تقلها إلى هناك. كثيراً ما كانت تتأمل السوق وتمنّي النفس بفراشات جيدة ينام عليها أطفالها غير تلك البالية التي تآكلت بمرور السنين. تشير والدة ياسمين إلى أنّهم عانوا الكثير من التهميش، مع ذلك فقد اعتنت بأطفالها الأربعة ووفرت ما يمكن توفيره من مستلزمات وقوت ليظلوا سعداء قانعين ولو بالقليل. تضيف حميدة: "ياسمين، على خلاف أشقائها، لم تكن متطلبة. كانت ترضى بالقليل، ومسالمة إلى أبعد حد. لم تتذمر يوماً من نوعية الطعام، وخلافاً لأشقائها لم تكن كثيرة المرض، ولم تشكُ علّة ألزمتها المستشفى. لكن في يوم الحادثة، بعدما ارتفعت حرارتها لم أجد في بيتي المتواضع أيّ طريقة لإسعاف طفلتي". تتابع أنّها انتظرت حتى الصباح، ثم حملتها مسرعة إلى مستشفى نفزة. بقيت ياسمين فترة في المستشفى وكانت حالتها خطيرة. بذل الأطباء أقصى جهدهم، حاولوا إنقاذ الطفلة لكنّ حالتها تدهورت تدريجياً، ثم نقلت إثر ذلك الى العاصمة لكنّها فارقت الحياة في الطريق إليها إذ لم يقوَ جسدها الصغير على تحمل ما حصل.
تشير الأم الملتاعة إلى أنّها لا تستطيع تصديق وفاة ابنتها، وتؤكد أنّ الظروف الصعبة هي التي حرمتها من ياسمين ومن ابتسامتها. وبالرغم من إيمانها بالقضاء والقدر لكنّها تعتبر أنّها ربما لو كانت في مكان قريب من المستشفى أو من الأطباء لربما كان في الإمكان إنقاذ طفلتها من نوبات الحرارة التي انتابتها ليلاً.
تؤكد حميدة أنّ الحادثة أثرت على وضعها النفسي كثيراً، بل تغيرت حياة العائلة جذرياً، فأولادها مصدومون، تنتابهم الكوابيس ليلاً، وذكرى ياسمين في كلّ مكان من البيت: صوتها، ومرحها، وركضها، وملابسها... كلّ شيء يذكرهم بياسمين.
الوضع أقسى في حالة يقين شقيقتها التوأم، التي ما زالت تنتظر عودة ياسمين التي تحسب أنّها في المستشفى. هي صغيرة جداً وبريئة بمثل براءة ياسمين توأمها التي ستعرف يوماً ما أنّ الفقر والتهميش حرماها منها وجلبا التعاسة لجميع أفراد عائلتها.
اقــرأ أيضاً
تقول والدتها حميدة الصالحي لـ"العربي الجديد": "ما حصل أنّ طفلتي الصغيرة ابتلت بالأمطار، وبالرغم من أنّها معتادة على مثل هذا الطقس إلاّ أنّ جسدها الصغير لم يصمد طويلاً، وعندما وصلنا إلى البيت كانت مرحة أكثر من المعتاد، واستمرت في اللهو مع أشقائها. وبالفعل، تناولنا العشاء وضحكنا معها هي التي أدخلت بابتسامتها الرقيقة الفرحة إلى البيت". تضيف: "لا أحد في إمكانه أن يصدق أنّها لم تعد بيننا، لقد رحلت ياسمين إلى الأبد، ولم أستطع أن أفعل أيّ شيء أكثر من انتظار شروق شمس اليوم التالي، وكم كانت يومها ساعات الليل طويلة، بل بدت تمضي كأنّها بلا نهاية على الإطلاق".
مثل عائلتها، عاشت ياسمين في منطقة مهمشة، وفي بيت متواضع ولدت فيه وهو يفتقر إلى أبسط الضروريات. نشأت وسط أسرة فقيرة مع شقيقتها التوأم يقين. منذ ولادتهما شهدت الطفلتان أقسى أنواع الحرمان. لم تكن حميدة تجد لهما الحفاظات أو الحليب حتى، فكانت تناشد المسؤولين الجهويين مدها ببعض المساعدات الغذائية. وكانت تبقى طوال ساعات أحياناً في انتظار ردّ غالباً ما يكون قاسياً وممزوجاً بالرفض. نادراً ما ساعدها المسؤولون، بل رفضوا مراراً استقبالها في مركز المعتمدية حتى.
عاشت حميدة من رعي الأغنام واعتادت أخذ أطفالها معها إلى المرعى، فزوجها يعمل في العاصمة التونسية في مجال البناء ويزورهم كلّ ثلاثة أشهر لتأمين القوت. يوم الحادثة احتارت حميدة في من سيرافقها من أبنائها، فتركت يقين مع ابنها الأكبر بيرم (10 أعوام) واختارت أن تأخذ ياسمين معها ويبقى ياسين (6 أعوام) مع شقيقه وشقيقته في المنزل. تقول إنّهم جميعاً متأقلمون مع ظروف الحياة على هذه الحال، فقد كانوا دائماً في صراع مرير من أجل تأمين القوت.
تشير الأم الملتاعة إلى أنّها لا تستطيع تصديق وفاة ابنتها، وتؤكد أنّ الظروف الصعبة هي التي حرمتها من ياسمين ومن ابتسامتها. وبالرغم من إيمانها بالقضاء والقدر لكنّها تعتبر أنّها ربما لو كانت في مكان قريب من المستشفى أو من الأطباء لربما كان في الإمكان إنقاذ طفلتها من نوبات الحرارة التي انتابتها ليلاً.
تؤكد حميدة أنّ الحادثة أثرت على وضعها النفسي كثيراً، بل تغيرت حياة العائلة جذرياً، فأولادها مصدومون، تنتابهم الكوابيس ليلاً، وذكرى ياسمين في كلّ مكان من البيت: صوتها، ومرحها، وركضها، وملابسها... كلّ شيء يذكرهم بياسمين.
الوضع أقسى في حالة يقين شقيقتها التوأم، التي ما زالت تنتظر عودة ياسمين التي تحسب أنّها في المستشفى. هي صغيرة جداً وبريئة بمثل براءة ياسمين توأمها التي ستعرف يوماً ما أنّ الفقر والتهميش حرماها منها وجلبا التعاسة لجميع أفراد عائلتها.