يعدّ الفساد من أبرز القضايا التي أثيرت في تونس ما بعد الثورة والتي شغلت الرأي العام، لا سيّما الفساد في المنشآت العمومية. وبات مواطنون كثر يتوجّهون إلى المؤسسات الرسمية والجمعيات التي تعنى بمكافحة الفساد لتقديم شكاوى تظلّم أو عرض ملفات تحوم حولها شبهات فساد.
وطاولت الشكاوى حتى عمليات الانتداب التي رفضها طالبو الشغل بمعظمهم، وكذلك عددا من المؤسسات والنقابات لأنّها لم تأتِ وفق القانون أي عبر اعتماد مبدأ المناظرة، بل حصلت على خلفية محاباة وفق ما أكّدته جمعيات تونسية عدّة. يُذكر أنّ 36 في المائة من مجموع الانتدابات ما بين عامَي 2011 و2015 لم تأتِ عبر مناظرات بل عن طريق عقود مؤقتة، وبعد سنة واحدة رُسم هؤلاء المنتدبون. الانتدابات بمعظمها أتت في عهد حكومة الترويكا، إذ شهدت الإدارات العمومية أكبر عملية انتداب بلغت 97 ألف انتداب شملت متمتّعين بالعفو التشريعي العام، من دون مناظرات. وتلك الانتدابات أثقلت كاهل الحكومات المتعاقبة، مع ارتفاع مستوى الأجور وجعلها في مواجهة مشكلة تحقيق التوازن المالي للدولة.
على الرغم من أنّ تلك الانتدابات تمّت في إطار تسوية وضع كلّ من حرم من حقّ العمل نتيجة قمع واضطهاد نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، إلاّ أنّ جمعيات عدّة مهتمة بمكافحة الفساد أكّدت تواصل الانتدابات على مدى السنوات الخمس الأخيرة من دون مناظرات. وقد طالبت بفتح تحقيقات جدية لمحاسبة كل مخالف، بالإضافة إلى المطالبة بتعزيز الرقابة داخل كلّ المؤسسات العمومية.
يقول رئيس "الجمعية التونسية لمكافحة الفساد" إبراهيم الميساوي لـ "العربي الجديد" إنّ "مؤشّر الفساد ارتفع كثيراً في المؤسسات العمومية، وشمل أيضاً عمليات الانتداب التي تأتي من دون مناظرات أو عبر عقد اتفاقيات مع بعض الأطراف النقابية لخدمة مصالحهم وتشغيل أقاربهم". يضيف أنّ "مؤسسات عمومية كثيرة تحوّلت إلى ما يشبه شركات عائلية. لم تعد الانتدابات تخضع لمبدأ الكفاءة والمستوى العلمي، وإنّما بالمحاباة لخدمة المصالح الخاصة، بالإضافة إلى توريث بعض المناصب". ويوضح الميساوي أنّ "الجمعية تلقت شكاوى عدّة تتعلق ببعض الإدارات العمومية التي تمّت فيها انتدابات عديدة فوضوية. وهو الأمر الذي يتطلب فتح تحقيقات جدية".
من جهتها كانت "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد" قد أكّدت استمرار حصول تجاوزات في الانتدابات في الوظيفة العمومية، نتيجة عدم احترام مبدأي المساواة والشفافية. وطالبت بضرورة إصدار منشور حكومي يذكّر بكل إجراءات تنظيم المناظرات في المؤسسات والمنشآت العمومية. وأشارت الهيئة إلى أنّها وجّهت في الفترة الأخيرة مراسلة إلى رئيس الحكومة ضمّنتها ما سجّلته من تجاوزات في انتدابات الوظيفة العمومية خلال تحقيقاتها. وشدّدت في هذا السياق، على تخصيص نسبة من الانتدابات لصالح أبناء الأعوان وعدم إخضاعهم إلى مناظرة، عملاً بمحاضر الاتفاق المبرمة مع بعض الأطراف النقابية، في خرق واضح للدستور وللقانون. وهو الأمر الذي تطلب تدخّل المحكمة الإدارية، خصوصاً أنّه يؤدّى إلى عدم تكافؤ الفرص أمام جميع العاطلين من العمل. كذلك دعت الهيئة إلى ضرورة دعم دور كل هياكل الإشراف والرقابة على المؤسسات والمنشآت العمومية، بالإضافة إلى ضرورة اعتماد المناظرات كطريقة للانتدابات والإعلان عنها بالطرق التي تضمن إعلام أكبر عدد من طالبي الشغل، ووقف العمل بالاتفاقيات المبرمة مع بعض الأطراف النقابية في ما يتعلق بتخصيص نسبة من الانتدابات لفائدة أبناء الأعوان، بالإضافة إلى كل ما من شأنه أن يخلّ بمبدأ المساواة وحسن التصرف في المرفق العام.
في هذا السياق، يُعدّ "اتحاد المعطلين عن العمل" أبرز المؤسسات التي انتقدت عمليات الانتداب على مدى السنوات الأربع الماضية، إذ قاد مسيرات عدّة في كل جهات البلاد، رافضاً الانتدابات التي أتت بحسب الولاءات والمحسوبية. ويقول الأمين العام للاتحاد سالم العياري لـ"العربي الجديد" إنّهم يطالبون "بمراجعة منظومة القوانين المتعلقة بالانتدابات والتشغيل في الوظيفة العمومية وفي القطاع الخاص، بالإضافة إلى تنقيح القوانين حتى يتمكن كلّ من تجاوز عمره 35 عاماً وبلغ الخمسين من المشاركة في مناظرات الوظيفة العمومية. فعدد كبير من العاطلين من العمل، من هذه الشريحة العمرية وقد تراوحت مدّة بطالتهم ما بين خمسة أعوام و18 عاماً". يضيف: "كذلك، طالب الاتحاد بإنشاء هيكل وطني يراقب شفافية كل المناظرات الوطنية ويكون الاتحاد ممثلاً فيه".
تجدر الإشارة إلى أنّ رئيس "هيئة مكافحة الفساد" شوقي الطبيب قد سبق وأكد أنّ "كلّ انتداب في الوظيفة العمومية ثبت فيه فساد، سوف يُلغى. وكلّ من ثبت انتدابه بطريقة غير قانونية، سوف يُخرج من وظيفته". وأشار إلى أنّ "رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد أذن بفتح تحقيق في كلّ الشبهات المتعلقة بالانتدابات في الوظيفة العمومية التي تمت بطريقة غير قانونية أي بالمحسوبية أو بالتحايل".