يشير تقرير جديد لـ"المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية" في فرنسا، إلى أنّ كثيراً من التصورات المجتمعية السابقة قد بدأت في الأفول، وأبرزها الشكل التقليدي للأسرة، أي الزواج. وبلغة الأرقام، يؤكد هذا المعهد الحكومي أنّ نحو 60 في المائة، تقريباً، من الولادات في فرنسا، سنة 2017، جرت خارج مؤسسة الزواج، وهي نسبة غير مشهودة في القارة الأوروبية.
وقد شهدت هذه الظاهرة تصاعداً متواصلاً، منذ ستينيات القرن الماضي، حين كانت نسبة المولودين خارج الزواج، سنة 1965، تقترب من 6 في المائة، إلى أن تعادلت الكفة سنة 2007. يتابع التقرير أنّ نسبة هذه الولادات خارج الزواج مرتفعة في مناطق وجهات فرنسية دون أخرى، وهكذا فهي مرتفعة في مستعمرات فرنسا السابقة (محافظات ما وراء البحار) حيث تصل إلى 83.6 في المائة، ثم تليها جهة الغرب، بنسبة 72.3 في المائة. أما في منطقة رون وباريس وضواحيها فما زالت غالبية الولادات تجري داخل مؤسسة الزواج، فلا تتعدى نسبة من وُلد خارج الزواج، في بعض ضواحي باريس نسبة 40 في المائة.
وبينما تحتل فرنسا مكاناً ريادياً في هذا الصدد، على الصعيد الأوروبي، فإنّ اليونان تمثل النقيض، إذ إنّ أقل من 10 في المائة من مواليدها يولدون خارج الزواج، تليها كرواتيا، بنسبة تقترب من 19 في المائة، ثم قبرص بنسبة تتجاوز بقليل نسبة 19 في المائة، وبولندا بنسبة 25 في المائة.
اقــرأ أيضاً
وليس هناك من شكّ في أنّ التطور الكبير الذي عرفته التقاليد والأعراف الفرنسية، في العقود الأخيرة، ساهم في هذا التحول الكبير. يقول الباحث إليامين ستّول، المدرّس في المعهد الوطني للفنون والمهن بباريس، لـ"العربي الجديد" إنّ جوّ الليبرالية الذي عرفه القانون المدني الفرنسي ساهم في نزع شيء من "القداسة" عن الزواج، بالإضافة إلى أنّ السلطات الفرنسية، عبر القانون المدني، لم تعد تميّز، بعد سنة 2006، في الحقوق، بين من يُعتَبَرون أبناء شرعيين، أي الذين ولدوا من خلال مؤسسة الزواج، وأبناء غير شرعيين، أي من ولدوا خارج مؤسسة الزواج. يضيف ستّول: "أصبح الفرنسيون أكثر تسامحاً. ولعلّ مثال مازارين بانجو، الابنة الطبيعية، أي غير الشرعية للرئيس الراحل فرنسوا ميتران من عشيقته، آن بينجو، خير دليل على تغير الذهنيات الفرنسية. والجميع يعترف بها، الآن، ابنة للرئيس الراحل، على قدم المساواة مع أخَوَيْها الآخرين، اللذين أنجبهما ميتران من الراحلة دانييل ميتران". يأتي ذلك مع العلم أنّ ميتران حاول أن يبقي الموضوع سرّيّاً، لولا أنّ أحد الكُتّاب والصحافيين الفرنسيين، وهو جان -إيديرن هالييه، هدّد الرئيس بكشف القضية، وهو ما عجّل بظهور الحقيقة للعلن.
قبل هذه الفترة، وتحديداً في الثمانينيات من القرن الماضي، ومع وصول الاشتراكيين إلى السلطة، وبداية تسوية أوضاع الكثير من المهاجرين غير الشرعيين، أقدم كثيرون منهم على الإنجاب، وبينهم مغاربيون وعرب، من دون زواج، حتى تسوى وضعياتهم القانونية بسهولة، أثناء حمل شريكاتهم أو بُعيد ولادة أبنائهم "غير الشرعيين". وهذا ما يعترف به لـ"العربي الجديد" أحمد الراوي، وهو مغربي، وصل إلى فرنسا سنة 1979، وفشل في تسوية أوضاعه القانونية، وكان مهدداً بالطرد: "لم أجد بدّاً، وبالاتفاق مع شريكة حياتي الحالية، وكانت حينها، أيضاً، بلا أوراق إقامة، من الإنجاب". يضيف: "تستطيع أن تكتب بأنّ ابننا، بعد فضل الله، هو من سوّى وضعنا القانوني". وكمن يحاول الاعتذار عن غلطة ما، يقول الراوي: "لو حاولنا، حينها، تنظيم الزواج في البلدية، مع شهود ومدعوين، لتمّ اعتقالنا وتسفيرنا على الفور، كما حدث لكثيرين ممن اتهمت السلطات الفرنسية بعضَهم بالإقدام على زواج صوري، من أجل الحصول على أوراق الإقامة".
في الحقيقة فإنّ "الأمور تغيّرت كثيراً في فرنسا، وازدادت الحريات، من سنة 2006 حتى الآن"، كما يقول لـ"العربي الجديد" الباحث الفرنسي علي بوكبّوس. يورد مثال قانون "الزواج للجميع" الذي أقرته فرنسا، والذي يرى فيه الباحث "تكسيراً لمفهوم الزواج على الطريقة الكلاسيكية. إذ أصبح الزواج ممكناً بين فردين من الجنس الواحد. وهذا ما دفع ويدفع الكثيرين للنفور من الزواج، بكلّ صيغه وأشكاله".
ولعلّ أشهر شخص في فرنسا أنجب من دون زواج، هو الرئيس السابق للجمهورية فرانسوا هولاند، الذي أنجب من السياسية الاشتراكية سيغولين روايال، أربعة أبناء؛ ولدين وبنتين. يستحضر بوكبّوس هذا المثال لرئيس الجمهورية الفرنسي، هولاند، ليستنتج أنّ الرموز تساعد على تطور العقليات المجتمعية، وهنا يؤكد أنّه "لولا أنّ الإحصاءات الإثنية والدينية محظورة في فرنسا، لتأكدنا من أنّ تصاعد نسبة المولودين خارج مؤسسة الزواج، ليس مقتصراً على طائفة، إثنية أو عرقية أو دينية دون أخرى، مثلما أنّ ظاهرة الطلاق وظاهرة الزواج المختلط في المجتمع الفرنسي هما بنفس النسبة بين كلّ مكوّنات المجتمع الفرنسي، بمُسلميه وغيرهم. وهو ما دفع بالباحث إيمانويل تُودْ لاعتبار المسلمين مندمجين في المجتمع كغيرهم".
اقــرأ أيضاً
يختم بوكبّوس قراءته لهذا التقرير الرسمي بالقول: "صحيح، أنّ هناك بعض المقاومة لهذه الظاهرة في العائلات التقليدية، مسيحية أو مسلمة وغيرها، إذ ما زال الزواج حيّاً ونابضاً، لكنّ النخب الفرنسية من أصول عربية وإسلامية، والتي تطمح إلى أبعد حدّ من الاندماج، بعيداً عن خطابات الحنين والعودة إلى الجذور المثيرة للشجن، لا تسلم من إغواء الحياة على الطريقة الفرنسية…".
وقد شهدت هذه الظاهرة تصاعداً متواصلاً، منذ ستينيات القرن الماضي، حين كانت نسبة المولودين خارج الزواج، سنة 1965، تقترب من 6 في المائة، إلى أن تعادلت الكفة سنة 2007. يتابع التقرير أنّ نسبة هذه الولادات خارج الزواج مرتفعة في مناطق وجهات فرنسية دون أخرى، وهكذا فهي مرتفعة في مستعمرات فرنسا السابقة (محافظات ما وراء البحار) حيث تصل إلى 83.6 في المائة، ثم تليها جهة الغرب، بنسبة 72.3 في المائة. أما في منطقة رون وباريس وضواحيها فما زالت غالبية الولادات تجري داخل مؤسسة الزواج، فلا تتعدى نسبة من وُلد خارج الزواج، في بعض ضواحي باريس نسبة 40 في المائة.
وبينما تحتل فرنسا مكاناً ريادياً في هذا الصدد، على الصعيد الأوروبي، فإنّ اليونان تمثل النقيض، إذ إنّ أقل من 10 في المائة من مواليدها يولدون خارج الزواج، تليها كرواتيا، بنسبة تقترب من 19 في المائة، ثم قبرص بنسبة تتجاوز بقليل نسبة 19 في المائة، وبولندا بنسبة 25 في المائة.
وليس هناك من شكّ في أنّ التطور الكبير الذي عرفته التقاليد والأعراف الفرنسية، في العقود الأخيرة، ساهم في هذا التحول الكبير. يقول الباحث إليامين ستّول، المدرّس في المعهد الوطني للفنون والمهن بباريس، لـ"العربي الجديد" إنّ جوّ الليبرالية الذي عرفه القانون المدني الفرنسي ساهم في نزع شيء من "القداسة" عن الزواج، بالإضافة إلى أنّ السلطات الفرنسية، عبر القانون المدني، لم تعد تميّز، بعد سنة 2006، في الحقوق، بين من يُعتَبَرون أبناء شرعيين، أي الذين ولدوا من خلال مؤسسة الزواج، وأبناء غير شرعيين، أي من ولدوا خارج مؤسسة الزواج. يضيف ستّول: "أصبح الفرنسيون أكثر تسامحاً. ولعلّ مثال مازارين بانجو، الابنة الطبيعية، أي غير الشرعية للرئيس الراحل فرنسوا ميتران من عشيقته، آن بينجو، خير دليل على تغير الذهنيات الفرنسية. والجميع يعترف بها، الآن، ابنة للرئيس الراحل، على قدم المساواة مع أخَوَيْها الآخرين، اللذين أنجبهما ميتران من الراحلة دانييل ميتران". يأتي ذلك مع العلم أنّ ميتران حاول أن يبقي الموضوع سرّيّاً، لولا أنّ أحد الكُتّاب والصحافيين الفرنسيين، وهو جان -إيديرن هالييه، هدّد الرئيس بكشف القضية، وهو ما عجّل بظهور الحقيقة للعلن.
قبل هذه الفترة، وتحديداً في الثمانينيات من القرن الماضي، ومع وصول الاشتراكيين إلى السلطة، وبداية تسوية أوضاع الكثير من المهاجرين غير الشرعيين، أقدم كثيرون منهم على الإنجاب، وبينهم مغاربيون وعرب، من دون زواج، حتى تسوى وضعياتهم القانونية بسهولة، أثناء حمل شريكاتهم أو بُعيد ولادة أبنائهم "غير الشرعيين". وهذا ما يعترف به لـ"العربي الجديد" أحمد الراوي، وهو مغربي، وصل إلى فرنسا سنة 1979، وفشل في تسوية أوضاعه القانونية، وكان مهدداً بالطرد: "لم أجد بدّاً، وبالاتفاق مع شريكة حياتي الحالية، وكانت حينها، أيضاً، بلا أوراق إقامة، من الإنجاب". يضيف: "تستطيع أن تكتب بأنّ ابننا، بعد فضل الله، هو من سوّى وضعنا القانوني". وكمن يحاول الاعتذار عن غلطة ما، يقول الراوي: "لو حاولنا، حينها، تنظيم الزواج في البلدية، مع شهود ومدعوين، لتمّ اعتقالنا وتسفيرنا على الفور، كما حدث لكثيرين ممن اتهمت السلطات الفرنسية بعضَهم بالإقدام على زواج صوري، من أجل الحصول على أوراق الإقامة".
في الحقيقة فإنّ "الأمور تغيّرت كثيراً في فرنسا، وازدادت الحريات، من سنة 2006 حتى الآن"، كما يقول لـ"العربي الجديد" الباحث الفرنسي علي بوكبّوس. يورد مثال قانون "الزواج للجميع" الذي أقرته فرنسا، والذي يرى فيه الباحث "تكسيراً لمفهوم الزواج على الطريقة الكلاسيكية. إذ أصبح الزواج ممكناً بين فردين من الجنس الواحد. وهذا ما دفع ويدفع الكثيرين للنفور من الزواج، بكلّ صيغه وأشكاله".
ولعلّ أشهر شخص في فرنسا أنجب من دون زواج، هو الرئيس السابق للجمهورية فرانسوا هولاند، الذي أنجب من السياسية الاشتراكية سيغولين روايال، أربعة أبناء؛ ولدين وبنتين. يستحضر بوكبّوس هذا المثال لرئيس الجمهورية الفرنسي، هولاند، ليستنتج أنّ الرموز تساعد على تطور العقليات المجتمعية، وهنا يؤكد أنّه "لولا أنّ الإحصاءات الإثنية والدينية محظورة في فرنسا، لتأكدنا من أنّ تصاعد نسبة المولودين خارج مؤسسة الزواج، ليس مقتصراً على طائفة، إثنية أو عرقية أو دينية دون أخرى، مثلما أنّ ظاهرة الطلاق وظاهرة الزواج المختلط في المجتمع الفرنسي هما بنفس النسبة بين كلّ مكوّنات المجتمع الفرنسي، بمُسلميه وغيرهم. وهو ما دفع بالباحث إيمانويل تُودْ لاعتبار المسلمين مندمجين في المجتمع كغيرهم".
يختم بوكبّوس قراءته لهذا التقرير الرسمي بالقول: "صحيح، أنّ هناك بعض المقاومة لهذه الظاهرة في العائلات التقليدية، مسيحية أو مسلمة وغيرها، إذ ما زال الزواج حيّاً ونابضاً، لكنّ النخب الفرنسية من أصول عربية وإسلامية، والتي تطمح إلى أبعد حدّ من الاندماج، بعيداً عن خطابات الحنين والعودة إلى الجذور المثيرة للشجن، لا تسلم من إغواء الحياة على الطريقة الفرنسية…".