الفتوّة مقصود

08 أكتوبر 2014
تصوير: عبد الرحمن عرابي (العربي الجديد)
+ الخط -
اهتزّت الأبنية فجأة في إحدى أكثر المناطق شعبية في بيروت. كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل. أطلّ السكان من شرفاتهم ليشاهدوا جبّالات الباطون وآلات حفر ضخمة تحيط بورشة مبنى جديد، وتباشر العمل ليلاً. ساد هرج ومرج، وتعالت أصوات سكّان الحيّ. تقدّم بعضهم نحو الشاحنات الضخمة، محتجّين بسبب تأخّر الوقت. اشتكوا الأصوات القوية التي أيقظت أطفالهم، والارتجاج الذي تحدثه تلك الشاحنات في الجوار. فترجّل سائقو الجبّالات، محاطين بعدد من شبان الحيّ ليصدّوا الاهالي: "روق يا حاج. معليش الورشة بعين مقصود"، قال أحد السائقين بعصبية. وكأنّ الطير حطّ على رؤوس الأهالي. فمقصود هو الكلمة السحرية في الحيّ الشعبي. أن تكون الورشة بحماية مقصود يعني أن الشاحنات لن تغادر والليل سيكون طويلاً. 
اتّصل أحدهم في يوم آخر بـ"سيتيرن" مياه. بائعو المياه كانوا نشطوا بعد انقطاعها عن أحياء بيروت. فتوزّعت صهاريجهم بين الأحياء وكثر الطلب عليها. طلب صاحب صهريج من زبون أن يرشده إلى عنوان. ضرب الرجلان موعداً وانتظر الزبون، لكنّ البائع لم يأت. حاول الاتصال به فلم يُجِب على هاتفه. مضت ساعتان على حلول الموعد، فبعث صاحب الصهريج رسالة اعتذار هاتفية إلى زبونه. وهكذا سيقضي ربّ العائلة وأولاده ليلتهم الثانية دونها. الرسالة شرحت أنّ "المبنى يقع في قطاع حصّة صهاريج مقصود. وأيّ تعدٍّ على قطاعه سيجعله عرضة لرجال مقصود".
لا تنتهي مآثر "مقصود" هنا. في كلّ مبنى من الحيّ له حصّة من موقف السيارات. في كلّ مولّد كهربائي اشتراكات باسم مقصود. ليس سهلاً أن يُحظى أيّ منزل في الحيّ باشتراك المولّد من دون موافقته. قوّة مقصود استمدّها من علاقته بالميليشيات، وهو يُحسن الانفتاح على جميع الأفرقاء ويمدّهم بعمولة خاصّة. علاقته قويّة بمخفر الحيّ وضابطه المسؤول. تتجنّب القوّة الأمنية التابعة للمخفر رجال مقصود في دورياتها. رجال الاسم الأقوى في الحيّ، يتمتّعون بمخصّصات شهرية يقتطعها لهم من عوائد مولّدات الكهرباء، وصهاريج المياه والخوّات على الورش الجديدة.
لا تُرفع لافتة دون علمه. لا تقيم فرقة المدائح النبوية مولداً في رمضان دون موافقته. حتّى أصحاب الدكاكين يلجأون إليه إذا تخلّف أحد عن دفع ديونه لهم. وله حصّة عند تحصيل الدين.
لا أحد يعلم متى سطع نجم الرجل. لا أحد يعلم متى سقط الحيّ في قبضة مقصود. ولا أحد يتعجّب من ذلك في بلد كلبنان. فـ"حالة" مقصود انعكاس لواقع الدولة. لغياب الأمن. لفلتان السلاح. مقصود هو نتيجة وليس سبباً.
لم تعد الناس في حاجة إلى توقيع نائب في البرلمان، طالما وقّع معاملتهم الرسمية مقصود. لا حاجة لسكّان الأحياء بقوى الأمن، طالما أنّ رجال مقصود يقرّون وينهون أيّ إشكال. رجال مقصود أقوى من رجال الأمن. السكّان هنا يدركون تماماً أنّ الدولة رمتهم في حضن مقصود. الرجل قادر على ما عجزت عنه السياسة. جمع بين الأحزاب عن طريق الإكراميات.
شارك مقصود إحدى شركات الخليوي بموافقته على تركيبها عامود إرسال فوق أحد المباني الحيّ. دفعت الشركة 40 ألف دولار. نال الرجل حصّته بالمناصفة مع لجنة البناية. السكان أطلقوا همساً على العامود اسم "خازوق مقصود". وصل الخبر إلى الرجل. فقصد الرصيف العريض حيث يركنون سياراتهم. وضع سلسلة طويلة من الأعمدة الصغيرة لمنع ركن السيارات. قصده الناس فوقف مقصود محاطاً برجاله المسلّحين في الحيّ، وراح يهتف: تلك العواميد الصغيرة هي خوازيق. خازوق لسياراتكم. خازوق لكم. خازوق للبلدية. خازوق للدولة.
أصبحنا هنا في العمق، في قعر العاصمة نعيش وخوازيق كثيرة لنا ولهيبة الدولة.
دلالات
المساهمون