انتهت حرب غزة الأخيرة. لكن المأساة بدأت بالنسبة إلى كثيرين، وقد أصبح أكثر ما يتمنونه هذه الأيام إيجاد مسكن متواضع لأطفالهم بعيداً عن زحمة مدارس الإيواء وغبار الخيم المنصوبة أمام البيوت المدمرة. لكن مهمة العثور على شقة متواضعة هذه الأيام، حلم بعيد المنال بالنسبة إلى آلاف الأسر التي فقدت منازلها. ويجهد كثيرون بحثاً عن سقف وأربعة جدران تؤويهم بعد معاناة عصيبة عاشوها وأطفالهم، على مدى 51 يوماً.
يقضي علاء شمالي يومه متنقلاً من حي إلى آخر في مدينة غزة، بحثاً عن شقة للإيجار بعدما فقد منزله في حي الشجاعية شرقي القطاع. فأسرته المكونة من أربعة أفراد تعيش مؤقتاً في منزل أحد أقاربها، بانتظار الفرج. لكنه لن يحين قريباً كما يبدو، إذ إن "العثور على شقة هذه الأيام مهمة شبه مستحيلة" بحسب ما يقول. وعشرات آلاف الشباب، حالهم تماماً كحال شمالي. فهم يتنقلون في الشوارع ويتواصلون مع أصحاب المكاتب العقارية والأصدقاء، لعلهم ينجحون في الاستقرار.
شمالي، القلق على مصير عائلته وأطفاله، يقول لـ"العربي الجديد": "انتهت الحرب وتوقف القصف، لكن معاناتنا لم تنته. والأسوأ أن لا أمل يلوح في الأفق بخلاص قريب". ويشكو جشع بعض أصحاب العقارات الذين يضاعفون أسعار ما تبقى من شقق متاحة، ويطلبون الدفع مقدّماً. كذلك ينتقد الجهات الرسمية في غزة، التي تركت أصحاب البيوت المدمرة يواجهون مصيرهم وحدهم. ويصف الشاب الموظف ما يجري بـ"الكارثة"، مطالباً بحلول عاجلة لمشاكل من فقدوا منازلهم وما زالوا مشردين، إما في المدارس أو عند الأقارب والأصدقاء.
وإذا كان شمالي قد وجد من استقبله في منزله، فإن عامر الصوفي، الذي كان يقطن شرق مدينة رفح (جنوبي القطاع)، ما زال مع أفراد أسرته في مدرسة إيواء تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا". فيقول الصوفي غاضباً "هذه ليست حياة تليق بالبشر. لا يُعقل أن نظل منذ ما يزيد على الشهر، في مدرسة مكتظة بمئات النازحين". ويشدد على أنه عاطل عن العمل ولا يستطيع دفع إيجار شقة، هذا إن تمكن من العثور على واحدة. ويشير الثلاثيني، الذي يرعى زوجة وخمسة أطفال، إلى أنه "قبل الحرب، كنت بالكاد أستطيع توفير قوت يوم عائلتي. لكننا كنا نعيش في منزل نملكه. أما الآن فنحن في مدرسة بلا عمل وبلا خصوصية ومن دون حد أدنى من مقومات الحياة".
محمود سكّر يعاني هو الآخر. فيقول إن الخيارات انعدمت أمامه، ولم يجد حلاً سوى نصب خيمة متواضعة أمام ركام منزله المدمر في حي الشعف. وهو يقطن فيها حالياً مع أشقائه بعدما ضاقت بهم بيوت الأقارب والأصدقاء. ويسأل سكّر بنبرة تفضح قلقاً على مصير عائلته المشتتة "لكن إلى متى؟ قريباً سيحل فصل الشتاء، ولن تنفعنا تلك الخيمة". ويؤكد الشاب العشريني على أن فكرة الانتقال إلى شقة قريباً، "ليست واردة، إذ لا توجد شقق في غزة. تعبنا ونحن نبحث. لكننا أسقطنا الفكرة من خياراتنا لاحقاً. نحن لا نستطيع دفع 500 أو 600 دولار أميركي شهرياً لقاء شقة متواضعة وأقل من عادية، فيما كان المقابل قبل الحرب لا يزيد على 150 أو 200 دولار".
مصير الأبناء ومستقبل دراستهم هو أكثر ما يشغل تفكير محمد عبد ربه، الذي دُمّرت شقته خلال الحرب ويستقر حالياً عند أقاربه في منطقة بعيدة عن محل سكنه السابق. ويشير إلى أن "العام الدراسي الجديد بدأ. ونحن نعيش في منزل أقارب لنا في مدينة غزة، فيما مدرسة أطفالي الثلاثة في بيت لاهيا التي تبعد أكثر من ثمانية كيلومترات". يضيف الموظف الحكومي أن أبناءه كانوا طوال السنوات الماضية متفوقين في دراستهم، "لكنني أشك في أن يستمروا كذلك. فما جرى خلال الحرب وتبعاته أقسى وأصعب من أن يستوعبه عقل".
10.690 وحدة سكنيّة مدمّرة
خلال العدوان الأخير على غزّة، دمّر جيش الاحتلال الإسرائيلي 10 آلاف و690 وحدة سكنيّة (نصفها كلياً)، الأمر الذي زاد على نحو غير مسبوق الطلب على المساكن. وتجدر الإشارة إلى أنّ القطاع يعاني منذ سنوات من قلة عدد الشقق بفعل الحصار الإسرائيلي وعدم إدخال الكميات المطلوبة من مواد البناء إليه.