يُعد الغاز أحد أسلحة موسكو الأكثر فتكا في العقد الأخير، وقد استثمرته روسيا على نحو سياسي في اتجاهين : الأول ، الضغط على دول الجوار مثل أوكرانيا وجورجيا للبقاء في فلكها وتحت وصايتها. والثاني لمواجهة الضغوط الأوروبية لجر هذه الدول إلى الفضاء الأوروبي الموحد. وحين تفجرت الأزمة الأخيرة مع أوكرانيا كان أول طلباتها تسديد مبلغ 2 مليار دولار كديون مترتبة على "كييف" من عائدات الغاز.
ورغم أن أزمة أوكرانيا دلت على أن الدرس سياسي أكثر منه اقتصادي ، فقد بات من المعترف به ان التقدم الروسي الساحق خلال السنوات الأخيرة يعود إلى فعالية سلاح الغاز والنفط ، فبفضله استطاعت ان تسدد في صورة مسبقة ديونها إلى "نادي باريس" بعد أن كانت عاجزة عن ذلك، وصارت شريكا في شركة الصناعات الفضائية الأوروبية (ايداس).
وقد فهم الأوروبيون أهمية هذا السلاح مبكرا ، لهذا عمدوا في السنوات الخمس الأخيرة إلى مسايرة روسيا من خلال اعتبار أن منبع الأزمة مع أوكرانيا هو خلاف على سعر الغاز فقط، وذلك لكي لا يمنحوها الحق في إعطاء هذا السلاح ابعادا أخرى من جهة، ومن ناحية ثانية عجزهم أمام مضاعفات تسييس الغاز.
فلو أنهم ذهبوا في
إتجاه النظر إلى الأمر من هذه الزاوية ، لكان عليهم مواجهة روسيا على نحو مختلف، وتبين
من خلال إدارة الأوروبيين للأزمة الروسية الأوكرانية منذ سنة 2004 حين اندلعت "الثورة البرتقالية" انهم عاجزون عن ترجيح الكفة لصالح أوكرانيا، وهي الطرف الذي اعتقد أن خلاصه من الوصاية الروسية تكمن في أن يصبح شريكا قويا وفعالا، في علاقة القوة المعقدة بين روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
ظهر المأزق واقعا فعليا بين موسكو وكييف على مدى السنوات العشر الأخيرة، وخرجت كييف هي الخاسرة ، فيما أكدت بروكسيل عجزها عن مد يد العون لها. وما صمت الأوروبيون وعدم قدرتهم على نجدة جورجيا في معركتها مع روسيا سنة 2008 ، إلا من باب تلافي المواجهة مع روسيا التي تلجأ فيها إلى استغلال الغاز كأداة ضغط.
أمام هذا الواقع لم يكف الأوروبيون عن التأكيد على ضرورة تعزيز الخيار الأوروبي للطاقة، من خلال استخدام الطاقة النووية كبديل للغاز الروسي.
لقد شعر الأوروبيون من خلال معاينة عميقة للأزمات المتوالية مع روسيا، أن أمنهم الإقليمي مهدد بسبب اعتمادهم على الغاز المستورد، الأمر الذي يعني في المقابل القوة السياسية التي تتمتع بها الدول ذات الاحتياطات الكبيرة بدءا بروسيا وإيران وقطر.
ولمعرفة حجم الثغرة في الأمن الأوروبي في ما يتعلق بالطاقة، يجب ملاحظة حالة الذعر التي عاشتها العديد من بلدان اوروبا جراء التلويح بوقف ضخ الغاز الروسي إلى أوكرانيا.
لقد دب الخوف في النمسا وايطاليا وفرنسا ومولدافيا وبولونيا ورومانيا وسلوفاكيا وهنغاريا والبوسنة وصربيا، وحتى ألمانيا التي تعتبر من اكبر زبائنها (84 في المائة من الاستهلاك الألماني للغاز يأتي من روسيا)، شككت في مدى الوثوق بروسيا.
لا يختلف اثنان في أوروبا على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أراد من وراء الخطوة توجيه اكثر من رسالة سياسية لأوروبا والولايات المتحدة الأولى، إن التلويح بسلاح الغاز الروسي المصدّر إلى اوكرانيا، هو رد على دعم الغرب للوضع الجديد في اوكرانيا، الذي يعمل على إخراج أوكرانيا من دائرة السيطرة الروسية، وإدخالها الى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي.
ويمكن التأكد من صراحة هذه الرسالة من خلال استمرار الروس ببيع الغاز بأسعار تشجيعية لاعتبارات سياسية لكل من ارمينيا واذربيجان.
إن المراد من ذلك القول للغربيين ان لروسيا ثقلها الذي يصل إلى حد جعل اوروبا ترتجف بردا، وهو الأمر الذي تلخص عبر ردود الفعل الأوروبية والأميركية، والقلق من "استخدام الطاقة لممارسة ضغوط سياسية". والرسالة الثانية، اراد بوتين تنبيه الغربيين إلى موقع بلاده على خارطة الطاقة الدولية، فهو منذ عدة سنوات لا يكف عن الحديث عن قدرة بلاده على تخفيف اعتماد اوروبا والولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط. ومن المعروف أن شركة "غاز بروم" تزود أوروبا بما يتجاوز نسبة 40 في المائة من حاجتها للغاز، و80 في المائة منها يمر عبر أوكرانيا. وقد لاحظ الاوروبيون كيف يستخدم بوتين هذه الورقة، وهو ليس خائفا من توظيفها. وبدا ذلك في أكثر من مناسبة.
أما الرسالة الثالثة، فهي ادراك بوتين أن الغاز صناعة نامية في أوروبا الغربية، ويزداد الطلب عليه لأسباب كثيرة، منها تراجع إمدادات الغاز من بحر الشمال والنروج، واكتساب الغاز أهمية استراتيجية جديدة يوما بعد يوم، لأنه لا يستعمل لتشغيل المصانع أو للأغراض المنزلية فحسب، بل وإنما لإنتاج الطاقة أيضا.
وفي رأي معظم الخبراء فإن الغاز سيبقى وقود القرن وأنه سوف يلعب، عاما بعد عام، دورا اضافيا مؤثرا في العلاقات السياسية والاقتصادية وعلى المستوى العالمي، واذا كان القرن الماضي قد شهد تدريجيا حلول النفط محل الفحم الحجري، باعتباره الوقود المفضل في العالم، فإن استهلاك الغاز يزداد في السنوات الأخيرة باعتباره أنظف المحروقات ومتوافرا بكميات كبيرة، وهو عامل أساسي في توليد الطاقة والصناعة العالمية، وتعتقد شركة "شيل" الهولندية، ان زيادة الطلب على الغاز سوف يكون بنسبة ثلاثة في المائة سنويا خلال العقد المقبل.
ويعرف الروس انه سيتعين على الأسواق الكبرى في اوروبا والولايات المتحدة وبلدان حوض المحيط الهادي، ان تعتمد بصورة متزايدة على الغاز المستورد أسوة بكوريا واليابان، وتقدر شركة " اكسن موبيل" أن تستورد أوروبا معدل 85 في المائة من حاجاتها الغازية بعد حوالي ربع قرن. لذا فإن هذه الحقائق تمنح الدول ذات الاحتياطات الغازية الكبيرة، قدرا اضافيا من القوة السياسية.
لكن الكثيرين من الاوروبيين لا يعتبرون الغاز قدرا نهائيا، وهم يعملون بشتى الوسائل على تخفيف الاعتماد عليه، وذلك في صورة خاصة المانيا التي تعد اكبر مستهلك له في اوروبا، وكشفت دراسات حديثة ان المانيا سائرة إلى تحقيق الهدف الرامي إلى تغطية استهلاكها الكهربائي عن طريق الطاقات المتجددة، بدل الاعتماد على الغاز المستورد.