رأي يعلق أهمية كبيرة على التصريحات الروسية الأخيرة التي باتت تشدد على مواصفات النظام الجديد الذي يجب أن يكون في دمشق، أكثر من الدفاع عن بقاء النظام الحالي، في مؤشر على استعداد روسي محتمل لقبول تسوية سياسية في سورية، تحفظ لموسكو مصالحها مع الأسد أو من دونه. لكن حتى في هذه النقطة، يبقى الغموض المقصود في التصريحات الروسية عاملاً محيراً، مثلما ورد في كلام الرئيس فلاديمير بوتين، أول من أمس، من أن "على الرئيس السوري أن يكون مستعدًا لتسوية مع المعارضة وأعوّل على موقفه الفاعل والمرن"، بموازاة وصف أركان الكرملين كل معارضي الأسد بـ"الإرهابيين". وكمعظم التصريحات الروسية، جاء كلام بوتين ليحتمل أكثر من تفسير، بإشارته إلى أنه يأمل أن يقبل الرئيس السوري بـ"تسوية نهائية ودائمة للنزاع في سورية ممكنة فقط على أساس إصلاح سياسي وحوار مع القوى السلمية في البلاد. أعرف أن الرئيس الأسد يتفهم ذلك وأنه مستعد لمثل هذه العملية".
كل ذلك على عكس الاعتقاد السائد في واشنطن أن موسكو تسعى عبر غاراتها الجوية على أهدافٍ منتقاة في سورية، إلى تمديد عمر نظام الأسد عن طريق ضرب المعارضة السورية المؤهلة للحكم، وليس تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، العدو المشترك للجميع، بمن فيهم روسيا.
أما الولايات المتحدة فقد أصبح خروج شخص الأسد من اللعبة، بمثابة "النصر المعنوي" المقبول لديها، للحفاظ على ماء وجه الإدارة الأميركية، في مقابل قبولها بنظامٍ في دمشق، تتولّى موسكو تحديد شكله ومواصفاته. وحسب التصريحات الأميركية الرسمية، لا تزال جهود الإطاحة بالأسد، التي لا تخفيها واشنطن، مقتصرة على الوسائل السياسية والدبلوماسية حتى الآن، ولكن من غير المستبعد أن يتخذ من التدخل الروسي ضد حلفاء الغرب في سورية، مبرراً لتصعيد جهود الإطاحة بالأسد حليف موسكو في دمشق من المستوى السياسي إلى المستوى العسكري.
وحتى لو ظلّ الأمر مقتصراً على الجهد السياسي، إلا أنه من الواضح أن الضربات الروسية أعطت هذا الجهد دفعة تحت مسمى "البحث عن حلّ سياسي للأزمة السورية" تفادياً لنشوب صدام روسي أميركي محتمل، بما لا يرغب به أي من الجانبين. وتتماشى الجهود الأميركية مع النهج الذي رسمه الرئيس الأميركي باراك أوباما لنفسه، المتمثل في تجنّب الرد بالقوة العسكرية قبل تجريب الوسائل السياسية لتحقيق الأهداف. ولكن نهج أوباما لا يتضمن استبعاداً نهائياً للخيار العسكري، بقدر ما يتضمن تأجيله ليكون آخر الوسائل.
اقرأ أيضاً: الأمم المتحدة تدعو للعودة لبيان جنيف وتنسيق روسي أميركي
وبعد ساعات من الإعلان عن الغارات الروسية المفاجئة في سورية، التقى وزير الخارجية الأميركية جون كيري، للمرة الثالثة في نيويورك خلال أقل من أسبوع، نظيره الروسي سيرغي لافروف لبحث المشكلة السورية. وناقشا تداعيات الضربات الروسية على أهداف قرب مدينة حمص، إحدى معاقل الأغلبية المعارضة. وعقب اللقاء، وقف الوزيران جنباً إلى جنب أمام الصحفيين في نيويورك، ليعلنا عن توصلهما إلى اتفاق مبدئي يتضمن خطوات قد تقود إلى تسوية سياسية للأزمة السورية.
ووفقاً لما أدلى به الوزيران الأميركي والروسي، فإن أولى الخطوات التي تحدثا عنها، بدأت أمس الخميس، بإجراء اتصالات عسكرية بين الجانبين، تتضمّن "عدم نشوب مواجهات غير مقصودة" أثناء تنفيذ الضربات الجوية، التي يشنّها الجانبان في سورية، بما قد يؤدي إلى عرقلة الحلّ السياسي. وجاء الاتفاق العسكري غداة إبلاغ القوات الروسية نظيرتها الأميركية في سورية، يوم الأربعاء، بـ"الابتعاد أثناء تحليق الطائرات الحربية الروسية". ولكن هذا الإجراء قد لا يكون كافياً لتقليل مخاوف المراقبين من طلعات روسية مقبلة، قد تتصدّى لها المقاتلات الأميركية، بحجّة الاعتقاد بأنها "تابعة للأسد".
وخلال المؤتمر الصحافي، أشار لافروف إلى أن "التعليمات التي تلقاها من (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين، شبيهة بالتعليمات التي تلقاها كيري من أوباما، وهي العمل بكل الوسائل على منع مواجهة عسكرية روسية أميركية على الأراضي السورية، نتيجة لأي خطأ غير مقصود هنا أو هناك". وتحقيقاً لهذا الهدف، أكد الوزير الروسي أنه "اتفق مع كيري على إنشاء قناة اتصال عسكرية بين الجانبين، للعمل على تلافي أي خطأ محتمل، قد يتطوّر إلى صدام غير مرغوب به".
أما ثانية الخطوات التي أشار إليها الوزير الروسي، فقد "كانت وفقاً لتعليمات بوتين وأوباما"، وتقضي بـ"التعجيل بدفع العملية السياسية قدماً، استناداً إلى حقيقة: أن الجميع يريد لسورية أن يكون فيها نظام ديمقراطي علماني موحد، يحافظ على حقوق جميع الأقليات الإثنية والطوائف".
واعترف لافروف، بشكل غير مباشر، بأن "نظاماً مثل هذا غير موجود حالياً في سورية"، مشدداً على أن "الخلاف بين موسكو وواشنطن، لا يكمن في الهدف، وإنما في التفاصيل حول كيفية الوصول إلى ذلك الهدف". في إشارة منه إلى "إقامة نظام تتوفر فيه المواصفات المتفق عليها". واعتبر لافروف أنه "رغم الخلاف على بعض التفاصيل، إلا أنه تم التوافق على بعض الخطوات العملية، التي ستشارك فيها أطراف عدة، من ضمنها منظمة الأمم المتحدة".
ولم يوضح لافروف طبيعة الخطوات التي يقصدها، باستثناء القول إنها "ستهيئ الوضع لإيجاد خيارات يُستفاد منها في العملية السياسية". وشدد على أن "لقاء الرئيسين بوتين وأوباما بنيويورك، يوم الإثنين، كان خطوة بنّاءة، ساعدت على إيجاد نوع من التفاهم بشأن الوضع في سورية وما حولها". وختم قائلاً إن "التواصل مع الوزير جون كيري سيستمر، بما يخدم التوصل إلى تسوية سياسية تقبل بها الأطراف المعنية جميعها".
من جهته، تحدث كيري، معرباً عن اتفاقه مع نظيره الروسي الذي أشار إليه باسمه الأول، سيرغي، في دلالة على أن تعدد لقاءاتهما خلق بينهما نوعاً من الصداقة. وركز كيري في حديثه، على أنه نقل إلى نظيره الروسي مشاعر القلق الأميركي من طبيعة الأهداف التي ضربتها روسيا في سورية. وأكد كيري في حديثه أيضاً، أن "الجانبين ناقشا مقترحات عدة تتعلق بسبل حل جوهر المشكلة، وهو التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة السورية".
ورغم أن كيري لم يكشف عن طبيعة تلك المقترحات أو الجهة التي تقدمت بها، إلا أنه أوضح ضمنياً بأنها "جديدة". ولفت إلى أنه "يتحتم عليه العودة بها إلى واشنطن، للتشاور بشأنها مع أوباما وفريق الإدارة"، مثلما هو الحال مع نظيره الروسي الذي سيعود بالمقترحات إلى موسكو لمناقشتها مع بوتين.
وكشف كيري أن "الطرفين سيتابعان في القريب العاجل نتائج المشاورات في العاصمتين"، مشدداً على "وجود اتفاق بينهما من حيث المبدأ، على ضرورة التوصّل إلى حلّ سياسي للمشكلة السورية، منعاً لتصاعد الأزمة إلى ما لا تُحمد عقباه، أو أن تستغلها قوى خارج نطاق التحكم من أي من الطرفين، لإشعال مواجهة عسكرية بين قواتهما الجوية في سورية".
وصبّ كيري المزيد من الغموض على طبيعة الحلول المطروحة للمشكلة السورية، بقوله "إن لم نكن قد توصلنا بعد إلى اتفاق حول اختيار الحل النهائي، إلا أننا اتفقنا على اتخاذ خطوات، من المؤكد أنها سوف تقرّبنا من التوصل إلى الحلّ".
وفي تأكيد غير مباشر من كيري على أن الضربات الروسية قد عجلت من جهود التسوية السلمية للأزمة السورية، قال الوزير الأميركي: "إننا نفهم جلياً أن أمامنا كمّاً كبيراً من العمل خلال الفترة المقبلة، وقد اتفقنا على أدائه بأسرع ما نستطيع، إدراكاً منا للطبيعة الملحة للأزمة السورية في الوقت الراهن، ولتداعيات مشكلة اللاجئين على أوروبا وعلى العالم أجمع".
وقبل نهاية كلمته شدد كيري على أنه "يتفق مع لافروف على أهمية الإبقاء على سورية دولة موحدة علمانية ديمقراطية"، قائلاً إن "هذا هو جوهر اتفاقنا، وسوف يستمر تواصلنا لاحقاً من أجل العمل على تحقيق هذا الهدف عملياً".
اقرأ أيضاً: عرض أميركي غامض على روسيا: وقف البراميل مقابل "أشياء"