العودة إلى غارودي

17 فبراير 2015
+ الخط -

لم تطو النخب الفرنسية بعدُ ملف أحداث "شارلي إيبدو"، وتوسُّعها في الجدال جعلها تتقاطع مع كتابات روجيه غارودي (1913 - 2012)، وتحديداً كتابه "أصوليات" الصادر سنة 1990، الذي يعتبر مرجعاً في الفهم الفرنسيّ والغربيّ المبكر للإسلام المتشدّد.

لكن غارودي يمثل للعقل الجمعي الفرنسي إشكاليةً مُركّبة. فرغم إعادة الاعتبار له اليوم لكونه من أوائل من اشتغل على الظاهرة، خصوصاً لكونه تنبّأ بمساراتها كما تؤكدّها الوقائع، يظل متّهماً على الدوام بمعاداة السامية والاستهزاء بالقيم المشتركة، وبالتالي فهو خارج الأطر الرسمية للنخبة الفرنسية. وللمصادفة (وهي مصادفة منطقية) يجمع كتابُه "أصوليات" دراسات حول الإسلام المتشدّد إلى جانب دراسة الصهيونية، وأشكال أخرى من الأصوليات.

يرحّب عرب فرنسا عادة بأي احتفاء بغارودي. وهذا ما لمسته مؤخراً من صديق لفت انتباهي بأن صاحب مكتبة باريسية أشار له باقتناء كتاب "أصوليات" الذي يحقق أرقام مبيعات جيدةً. وجد صديقي في الكتاب "نبوءات نكاد لا نصدّقها حول ما حصل بالفعل". ما يفرحه، كتونسيّ مقيم في فرنسا، هو عودة الفرنسيين واعترافهم بقيمة غارودي الذي طالما حوصر فكره.

يعود التهليل الإعلامي بقراءات غارودي لتقاطع دراسته مع الراهن السياسي في فرنسا الذي "تضربه الأصوليات من كل جانب". والنقطةُ التي تسلَّط عليها الأضواءُ أكثر من غيرها، هي أنه عرف أن الأصوليات الإسلامية، التي تناولها بالدرس في مصر وإيران والسعودية والجزائر، ستجد امتدادها في فئة المهاجرين داخل فرنسا. هؤلاء المهاجرون هم محطّ هجومات أصولية أخرى، وتحديداً الأصولية القومية ممثلة في "الجبهة الوطنية". وقد تناول غارودي بالتشريح، وباستفاضة، هذا الاتجاه السياسي.

إذن، فالعودة لقراءة المفكر الراحل لن تخفي أن بقعة الضوء المسلطة عليه مرسومة بعناية، وأنها لا تتخطى مجال الحديث عن الأصولية الإسلامية. ولعلّ غارودي نفسه، لو أنه لا زال على قيد الحياة، لن يفرح بعودة الاحتفاء به بهذا الشكل، فجوهر ما أراد أن يقوله في كتاب "أصوليات" مغيّب، وهو أن "كل الأصوليات المنتشرة في العالم هي ردّ على أصولية الغرب".

يحاول العمل أن يعود إلى الجذور الفكرية للأصولية، والتي لخّصها في "سيطرة الفلسفة الوضعية على الفكر الغربي بادّعاء بلوغ حقيقة نهائية من خلال حصر المعرفة، هو ما خلق السياق الاستعماريَّ الذي أوجد كل الأصوليات". هذه الأصوليات التي لم تكن تحتاج إلا إلى الوقت كي تعي نفسها وتتبلور.

بعد أن نطلع مع غارودي على جذور الأصولية، يصبح استقطاع نبوءة دون مقدّماتها، وطرحُها بهذا الشكل على الجمهور، أمراً يثير الريبة بلا شك. كتاب غارودي هذا، نُقل مبكراً إلى العربية (1992) بترجمة لخليل أحمد خليل، تحت عنوان "الأصوليات المعاصرة: أسبابها ومظاهرها" عن "دار عام ألفين" في باريس.

دلالات
المساهمون