لا يملك عبد السلام في القبو الذي يعيش فيه سوى سرير حديدي ينام عليه، ووسادة قاسية مصنوعة من التبن المكدّس، وبابور كاز نحاسي يطبخ عليه، بشكل يومي، شوربة العدس أو الشاي الأسود. كما تفترش أرضية مسكنه، الذي تطل نافذته الوحيدة على أقدام المارة وعجلات السيارات، طبقة سميكة من البُسط القماشية الملونة كان قد جمعها في شبابه من هنا وهناك. القبو هو جزء مقتطع من مشغل كبير للخياطة، ترى فيه العمال الحلبيين يعملون فيه حتى مطلع الفجر.
مساء كل خميس، يصطحبه تاجر الحبوب أبو الطيب معه إلى سهراته ليدندن على العود ويغني خلالها. لم يكن صوت عبد السلام بالصوت الجميل، صوته جيد لا أكثر ولا أقل، أي أنه كان كافياً لتمضي سهرة الخميس التي كانت تسمى، حتى لو لم يسكر أي أحد فيها، بـ "السكرة". غالباً ما كانت سهرة الخميس تنتهي فجر الجمعة بشرب الشاي، الذي كان عبد السلام يحضّره بالطريقة نفسها منذ سنوات؛ يضع الأبريق النحاسي بداية السهرة على مدفأة المازوت شتاءً، وعلى موقد صغير من الفحم صيفاً.
بدأت المظاهرات ضد نظام الأسد في "حي الشعار" على أطراف حلب، بعدها تدرّجت الاعتقالات والمداهمات والاشتباكات بين فصائل الجيش الحر وجيش النظام. سنوات ثلاث مرّت، تغيّرت كثير من معالم هذه المنطقة الشعبية، هشّمت طائرات الميغ أكثر من نصف أبنيتها وعبّاراتها (أسواق تجارية صغيرة في مداخل البنايات). شارع "سد اللوز" الذي يقطنه عبد السلام شبه فارغ ومفتقد للحياة، التي كانت تبثها صيحات أصحاب البسطات الملاحقة لخطوات النسوة اللواتي يتمشيّن كل يوم، حتى لو لم يُرِدنَ التبضّع.
أشهر عديدة مرّت بصعوبة على الرجل الخمسيني الأعمى، خصوصاً بعد أن انتهى طقس سهرة الخميس لأنّ أبو الطيب سافر إلى مرسين التركية وافتتح مطعماً للشاورما والفروج، المشوي والمسحب، هناك. بدأ يقضي أياماً بكاملها في قبوه، يدندن بعض الأغاني التي لم يعد يتذكّر إلا مطالعها فقط. كما أن أصوات ماكينات الخياطة وعمال المشغل قد اختفت تماماً بعد إفراغ المشغل من ماكينات الدرزة والحبكة. المنظر مهيب أمام بيته، عمود الكهرباء الخشبي صار جسراً يستخدمه أطفال الحي للتنقل بين رصيفين. تحت الجسر الجديد، وحل مجبول بالرصاصات الفارغة وقطع أثاث مدمرة، وفوقه طائرات الميغ تلقي ما أتيح لها من براميل متفجرة.
الخروج مهمة شاقة تتعب عبد السلام، لأنها تأخذ أضعاف الوقت المطلوب للوصول إلى بيته، فاقتصرت مغادرته للقبو على الذهاب إلى بقالية "الرحال" عند شارع السرافيس. مشتريات عبد السلام من بقالية "الرحال" لم تتغير رغم كل ما حدث: كيلو عدس أحمر، وقية شاي أسود، علبة بسكويت سادة، راحة درعاوية، وعلبة "غلواز أصفر تهريب" يخرجها صاحب البقالية بحذر من الكرتونة المخفية تحت الجام الزجاجي. المشهد عند البقال هو الوحيد من مشاهد "الشعار" التي لم تتغير في حياة الحلبي الأعمى: "يشتري أغراضه بسرعة. يرمي النقود في الميزان الحديدي. ويستأنس في طريق العودة بكازوزة حمراء "خزنة" موضوعة في كيس نايلوني شفاف. للكازوزة طعم غريب، مزيج من الحلاوة الشديدة والحموضة الناعمة واللاذعة، يتم شربها بواسطة شلمونة بلاستيكية أحد طرفيها بين شفتي عبد السلام الصغيرتين والمدببتين، والطرف الثاني في مركز الكيس تماماً".
الوحدة الطويلة خلقت عند ساكن القبو عادات جديدة، فصار يقضي ساعات داخل عتمته وهو يتلمّس الجدران، ثم يتذوّق طعم الدهان بعد أن يقشره بأصابعه. تمتلك لحظة قشر الدهان وخزةً في الأظافر سرعان ما تتحول إلى ارتجاج غير مرئي في جلدة الرأس. أخبرنا عبد السلام أن النظر قد عاد إليه، مراراً، في اللحظة الفاصلة بين الوخزة والارتجاج. لكننا لم نبد اهتماماً كبيراً بكلامه، فقط تظاهرنا بالتصديق صوتياً، بينما البسمة لا تفارق وجوه أربعتنا.
يشتد البرد ونحن لا زلنا بانتظار كريم، الشاب العراقي، الذي نزل إلى بلدة قريبة استطعنا رؤية أضوائها من هنا. يتوقف عبد السلام عن الكلام ويطلب مني سيجارة، فأعطيه واحدة ويلتقط أيهم عوداً من الحطب ليشعل سيجارة الحلبي.
خلال ممارسة العادة التي اكتسبها عبد السلام أثناء حرب حلب، اكتشف وجود فتحات بين الجدران، صار يتنقل عبرها من مكان إلى آخر. انتقل بعدها ليروي لنا أشياءً غير قابلة للتصديق، كوصوله مرّة، وعبر فتحات الجدران، إلى تحت سوق التلل. استطاع التعرف على المكان الذي فوقه من خلال خطوات النساء في المكان المزدحم. وأردف مستشهداً بسماعه لمحاولاتهن مكاسرة تجار الملابس والبسطات تارة، وتارة أثناء إرضاء أطفالهن بالشراء من عربات السحلب والمعروك والبليلة والفستق الحلبي والبوظة الألعاب البلاستيكية.
كعادته، عندما يمل من أكل شوربة العدس، ذهب إلى مطعم صغير يبيع العجة قرب الجسر. لكنه لم يكن يعرف بأن أبو صطيف، صاحب أول مطعم عجة في هذه المنطقة، قد أغلق محله، وقيل إنه يعيش مع عائلته في أحد المخيمات التركية. العجة عبارة عن خلطة من البيض والطحين والبقدونس ويتم وضعها في الزيت وتقلى كالفلافل. إن وجود مطعم يقدم هذه الأكلة الشعبية لا وجود له خارج حلب.
عاد عقبها عبد السلام خائباً دون أن يظفر بصحن العجة والسلطة، أو حتى أن يتلذذ بأكل المخلل بصنوفه المختلفة المفرودة على طاولات المحل. تهادى في مشيته، وبات يعلو صوته؛ يرد السلام على الناس الذين لا وجود لهم أصلاً، يبدأ يفتح النقاشات معهم، يشتم طفلاً، ويخرج لثان قطعاً من السكاكر المنكهة بالنعناع. عاد الرجل دون أن يتعثر في طريق العودة ببسطات مترامية على الرصيف الموحل، يبيع أصحابها عليها؛ جوارب، أحذية، ملوخية، عطور، كاتو، دخان، بطيخ أصفر وأخضر، أفلام أجنبية بترجمات محترمة، جزادين، ميداليات، خبز بلدي/سياحي، نظارات، أحزمة، أدوات الكهربائية، أسطوانات حفلات خاصة وأعراس، جرائد، ومخللات.
بعض الكلمات التي كان يمرّرها عبد السلام في حديثه كانت توجب على أحد منا التدخل لشرح معناها، أذكر بعضها على سبيل المثال: "سكرتون"، "سكمبيل"، "مجموعة"، "دوار الموت"، "بلدية"، "أم عبدالله"، "الخارج"، "كهريز"، "سماقية"، "الصنم"، "الفرشخانة"، "جامع الجكارة"، "لحمة بكرز"، "العئيدة"، وغيرها.
عمل عبد السلام، الذي هجرت عائلته منذ عشرات السنين قرية واقعة في الريف الشمالي لحلب، كبائع في محل للأجبان والألبان تشارك به مثقفان حلبيان كانا يتناوبان على أدارة شؤونه قبل أن يفلسا ويفضا شراكتهما الخاسرة. وأهم فترة في حياته كانت حين عمل كفنان، حيث أتاح له هذا المجال صداقات لا تنتهي مع أشهر موسيقيي المدينة، ودائماً ما يكرر قصة مؤامرة معظمهم عليه كونه أكثرهم موهبة.
توقف عن الحديث عندما جاءتنا أصوات سيارات ليست بعيدة عن الغابة التي نتواجد فيها، سكتنا وبتنا نحدّق في بعضنا. تبتعد الأصوات تدريجياً. يقوم عبد السلام بطمأنة الجميع مؤكداً بأن السيارتين متجهتان بعيداً عن الغابة، فهو يعتز كثيراً بقوة سمعه.
يكمل لنا كلامه عن قدور الذي كان يأخذه ليل كل ثلاثاء إلى رصيف قريب من الحصان الجامح (نادي ليلي). هناك، يقف عبد السلام واضعاً يده على كتف قدور الذي يصف لصديقه الأعمى، بطريقة روائية، أجساد الفتيات الروسيات اللواتي يخرجن من النادي. مرت سنوات كثيرة وهما يذهبان، أسبوعياً، عند العاشرة ليلاً، لمشاهدة الفتيات العاملات في النادي وهن يخرجن صوب الفندق الذي يقطنه. قدور يروي وعبد السلام يستمع لصديقه بإصغاء تام، ويتخيل.
فجأة، يعود كريم، الشاب العراقي، بصحبة أحد المهربين، فنتوقف عن الحديث ونصعد في السيارة. فتسير بسرعة، بعد أن جمعنا كل ما تبقى معنا من نقود وأعطيناها للمهرب. نشاهد من الزجاج الخلفي للسيارة الغابة المقدونية ونحن نبتعد عنها. ستوصل سيارة المهرب شيار ونوال إلى ألمانيا، وكريم إلى فرنسا، وسعيد إلى هولندا، وأنا إلى هولندا. بينما عبد السلام، يريد أن يبصم ويأخذ الإقامة في أول دولة تلقي شرطتها القبض عليه كونه "غير شرعي".