يتذكّر التونسيون جيداً أحداث ما اصطلح على تسميته بـ"الخميس الأسود"، يوم 26 من يناير/كانون الثاني من العام 1978، عندما عمّت الاحتجاجات أرجاء البلد، ووقعت مواجهات عنيفة بين الأمن والمحتجين. ولعلها صدفة تاريخية أن ترتفع ذات المطالب، أمس الخميس، قبيل ذكرى أحداث 1978، وهي المطالب نفسها التي أجّجت الثورة التونسية، منذ خمس سنوات، وبقيت تراوح مكانها في المناطق المحرومة، من دون حلول حقيقية للأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد.
ولم تفلح القرارات الحكومية المستعجلة التي أُعلنت، أمس الأول، في إخماد لهيب الاحتجاجات، التي زادت وتوسّعت إلى مدن كثيرة أخرى تعيش المعاناة نفسها. وخرجت تظاهرات مطالبة بالعمل في باجة (شمال تونس)، واقتحمت مجموعة من العاطلين عن العمل (من عمّال الحضائر(المياومين)، وأصحاب الشهادات العليا والأساتذة مقر المحافظة.
وبحسب وكالة الأبناء التونسية، فقد أقدم شابان من عمال "الحضائر" على قطع شرايين يديهما باستعمال آلة حادة، ونقل أحدهما إلى المستشفى، في حين رفض الشاب الثاني تلقى العلاج. ورفع المحتجون شعارات تطالب بالحد من التهميش وتنفيذ الاتفاقيات الموقّعة منذ سنوات.
وعاشت سيدي بوزيد، أمس الخميس، بدورها حالة من الاحتقان والفوضى، بعد إقفال الشوارع وحرق الإطارات المطاطية، مما أدى إلى مواجهات مع قوات الأمن التي استخدمت الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين ومنعهم من اقتحام مقر المحافظة. كما خرجت احتجاجات في مدينة المهدية في الساحل الشرقي. واقتحمت مجموعة من المحتجين مقر محافظة جندوبة (شمال غربي تونس)، إحدى أفقر المحافظات في تونس، والشيء نفسه حصل في القيروان وسط تونس، حيث أقدمت مجموعة من الشبان العاطلين عن العمل على الدخول إلى مقر المحافظة. وشهدت مدن أخرى في الجنوب الشرقي، ومدن صفاقس في الوسط الشرقي، وتوزر في الجنوب الغربي، وزغوان شمالاً، وبنزرت في أقصى الشمال، ومدنين أقصى الجنوب وقفصة والحوض المنجمي، احتجاجات مماثلة رفعت شعارات مشابهة.
وتعكس هذه التظاهرات التي خرجت متزامنة في كل أرجاء البلاد، حالة من اليأس الواضح، ووحدة في المطالب تؤشر على استمرار الأزمة التي قادت إلى قيام الثورة، قبل خمس سنوات، وتدل أيضاً على فشل حكومي ذريع في إيجاد حلول ولو بشكل مرحلي.
وجاءت قرارات الحكومة، قبل يومين، حول القصرين لتزيد من الأزمة في نظر كثيرين، وتثير استغراب المواطنين من الإعلان عنها بمجرد انطلاق الاحتجاجات، وعلّق عليها شباب محافظة القصرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي بكثير من الغضب والرفض. فقد عبّر بعضهم عن رفض ما وصفوه بـ"الحلول الهشّة"، مطالبين بفرص عمل دائمة. واعتبروا هذه القرارات "إغراقاً للقصرين بالحضيرة والآلية 16"، وهي آليات عمل مؤقتة ومحدودة الأجر ولا توفر عملاً للعاطلين عن العمل وفق اختصاصاتهم.
اقرأ أيضاً: تونس: قرارات حكومية لاستيعاب الاحتجاجات
وجاء في إحدى الصفحات إن "القصرين لا تريد منكم آليات تشغيلكم الهشة، وأصحاب الشهادات العليا وغيرهم من العاطلين عن العمل المحتجين، لا يطلبون مجرد "حضاير" تستنزف ميزانية الدولة ولا تقدّم لها شيئاً، نحن نريد أولاً فرص عمل تليق بكرامة المواطن حسب اختصاصه لإدارة عجلة التنمية في هذه الولاية المنسية، ونطلب تسهيل الاستثمارات والتعجيل في قبول دراسات المشاريع الصغرى والمتوسطة، ومتابعتها وتمويلها في أقرب الآجال، وهذا يتطلب مقاومة ضدّ بيروقراطية الإدارة في القصرين، وفتح ملفات الفساد ومحاسبة الفاسدين والمختلسين، والإسراع في إنجاز المشاريع المعطلة أصبح ضرورة مستعجلة". وأضافت: "إصلاح منوال التنمية في القصرين لن يتحقق إلا بتغيير ماكينة الفساد في الإدارات والتي فشلت سابقاً، ولن نثق فيها مجدداً إذا لم يتم تغيير رموز الفساد بها". وتعكس هذه المطالب وعياً لدى شباب القصرين وغيره، بتفاصيل الأزمة وطرق حلّها، وتُعبّر، في الوقت ذاته، عن مطالبهم بحلول جذرية للبطالة، بعد صبر خمس سنوات.
غير أن أغلب الانتقادات حول هذه الاحتجاجات تمحورت حول استعمال العنف أحياناً، وإن كانت أغلب الاحتجاجات سلمية، فقد خرج بعضها عن السلمية، وتمثّلت في صدامات مع قوات الأمن أدت إلى جرح العشرات منهم.
وأضرم محتجون النار في مركز الحرس الديواني (الجمارك) في حيدرة قرب القصرين، وهو ما أثار احتجاجات لدى الشباب المتظاهرين، ما قاد إلى الاعتقاد، أن هناك متسللين إلى المجموعات الشبابية السلمية تحاول استغلال الوضع، خصوصاً من المهرّبين. وتجدر الإشارة إلى أن قطاعاً واسعاً في مدن القصرين يعيش من التهريب مع الجزائر منذ عقود.
لكن المتحدث الإعلامي باسم وزارة الداخلية التونسية، وليد الوقيني، اعتبر في حديث لـ"العربي الجديد"، أن استهداف مركز للأمن في تالة بالمولوتوف "لا يُعتبر احتجاجاً سلمياً". وحذر من أن "هذه الاعتداءات من شأنها أن تسهّل تحركات الإرهابيين في جبال تالة"، مضيفاً: "في ظل انسحاب الوحدات الأمنية، فإن التهديدات الإرهابية كبيرة جداً، لأن الإرهابيين يستغلون مثل هذه الأوضاع". واعتبر أنّ "ما يحصل من اعتداءات بعيد كل البُعد عن الوطنية"، مؤكداً أن "بعضهم يحاول استغلال هذه الاحتجاجات، إذ شاركت في الاقتحامات سيارة جاءت من ليبيا، قبل أن تلوذ بالفرار"، لافتاً إلى أن "هذه الأعمال تشوّه الاحتجاجات السلمية".
ومع تصاعد وتيرة الاحتجاجات، طالب عدد من نواب البرلمان، أمس، بعقد جلسة عامة طارئة، اليوم الجمعة، للتباحث في هذه الاحتجاجات. وبعد الغموض الذي أثارته القرارات الحكومية الصادرة قبل يومين والتساؤلات إذا كانت خاصة بمحافظة القصرين وحدها، أوضح المتحدث الرسمي باسم الحكومة خالد شوكات، أن ما تقرر من إجراءات تحفيزية في مجالي التنمية والتشغيل في ولاية القصرين ينسحب على كل الولايات الداخلية المعنية بالتمييز الإيجابي في الدستور.
هذا التأكيد الذي قد يقلّص من حدة الاحتجاجات، يطرح جملة من الأسئلة عن التكلفة الاقتصادية لذلك، وإذا ما كان الاقتصاد الوطني يتحمل تشغيل 70 ألف شخص في الوقت الحالي بالإضافة إلى تساؤلات عن قدرة الحكومة على خلق فرص العمل هذه بالسرعة المعلنة، وبالتالي سبب عدم مبادرتها للقيام بذلك قبل اندلاع الأزمة. ويبقى السؤال كبيراً حول التعاطي السياسي مع الوضع في تونس، وإن كان تغير فعلاً؟
اقرأ أيضاً: المرزوقي لـ"العربي الجديد": بشار الأسد هولاكو العصر