تدهورت العلاقات الألمانية الأميركية بشكل كبير مع وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، واختياره المواجهة مع أوروبا بدءاً من ألمانيا، ولجوئه إلى التهديد بإجراءات عقابية، واعتماده أسلوب الضغط ليحقق بعض طموحاته، مما أدى إلى وصول العلاقات بين برلين وواشنطن إلى أسوأ مراحلها منذ بداية القرن التاسع عشر، وفق ما يقول خبراء.
هذه العلاقة المتوترة بين ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، كانت قد تجلت أولاً عبر تركيز ترامب على تقليص الفائض التجاري الألماني مع بلاده (تثير الاختلالات التجارية بين البلدين وتحقيق ألمانيا فائضاً في ميزانها التجاري غضب ترامب)، إضافة إلى تهديده بفرض رسوم جمركية إضافية على شركات صناعة السيارات الألمانية. كما رفع التعريفات وفرض رسوما أعلى على منتجات إضافية، بينها المربيات الألمانية والفرنسية بنسبة 25 في المائة، اعتباراً من شهر سبتمبر/أيلول الحالي، وفق ما ذكرت شبكة "إيه آر دي" الإخبارية الألمانية أخيراً.
كذلك، فإنّ ترامب يعمد إلى معايرة برلين لتنفيذها مشروع خط "نورد ستريم 2" لنقل الغاز من روسيا، في حين "تقوم واشنطن بحمايتها"، وتهدد إدارته حالياً بفرض عقوبات على الشركات التي تنفذ المشروع، بعد أن شارف على نهايته. هذا عدا عن الإعلان أخيراً عن قراره سحب حوالي ثلث القوات الأميركية المتمركزة في ألمانيا (11900 جندي)، بهدف إخضاع برلين، وإجبارها على تسديد نسبة 2 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي لحلف شمال الأطلسي المتفق عليها في قمة ويلز ببريطانيا عام 2014، علماً أنّ المهلة لتحقيق ذلك سارية حتى عام 2024.
وعما إذا كان ترامب محقا في المطالبة بنسبة الـ2 في المائة لإنفاقها على الدفاع ضمن حلف شمال الأطلسي، قال مدير "مؤسسة العلوم والسياسة" في برلين، فولكر بيرتس، في حديث لصحيفة "تاغس شبيغل" أخيراً، إنّ "ما يقوم ويطالب به ترامب هو بمثابة جرس إنذار لأوروبا"، مؤكداً أنه "من المهم أن يتفق الأوروبيون على ما يحتاجون إليه، من دون أن يعني ذلك إنهاء الشراكة مع الولايات المتحدة، بل جعلها أكثر تناسقاً".
موتزينيتش: يجب إعادة تقييم التعاون في مجال التسليح مع أميركا
وتتباين ردود الفعل بين شركاء الائتلاف الحاكم في برلين حول إجراءات ترامب وتصريحاته تجاه ألمانيا. إذ اعتبر زعيم كتلة الحزب "الاشتراكي الديمقراطي" في البوندستاغ، رولف موتزينيتش، في حديث مع صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ"، أنه "يجب إعادة تقييم التعاون في مجال التسليح مع أميركا، لأنّ ترامب ينتهج سياسة التعسف والضغط، وهذا لا يمكن أن يكون الأساس للتعاون القائم على الشراكة". غير أن هذا الطرح لم يحظ بموافقة "الاتحاد المسيحي"، إذ رأى رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البوندستاغ، المنتمي إلى حزب المستشارة أنجيلا ميركل، السياسي روديرش كيزهفتر، أنّ "الضمانات الأمنية امتدت لعقود طويلة، واستفادت ألمانيا والاتحاد الأوروبي من صناعات التكنولوجيا الأميركية الدفاعية، وحتى الآن ليس هناك من بديل مناسب وأسعار معقولة". وهو ما أكده زميله، خبير الدفاع في الحزب، هونينغ أوته، قائلاً إنّ أميركا "تظلّ أهم شريك لألمانيا خارج أوروبا".
من جهته، وجّه رئيس وزراء ولاية بافاريا، ماركوس سودر، المتوقّع ترشحه لخلافة ميركل، من ميونخ أخيراً، انتقادات قاسية لترامب. وقال: "بدلاً من الصداقة والتنسيق الوثيق، هناك دائماً تصريحات مزعجة من ترامب عن برلين، فبدلاً من التحدث مع بعضنا، نحكم على بعضنا البعض، ومن غير المفهوم لماذا تضعف القيادة في أميركا العلاقة حقاً"، معتبراً أنّ "سحب القوات الأميركية من ألمانيا لا يخدم واشنطن كثيراً، لأنّ مصالحها مرتبطة أساساً بمصالح حلف الأطلسي، وألمانيا جسر لأنشطة بعثاتها العسكرية خارج أوروبا".
في خضمّ ذلك، اعتبرت صحيفة "هاندلسبلات" الألمانية أخيراً، أنّ ألمانيا "باتت في وضع غير مستقر جيوسياسياً لم تشهده منذ عام 1989"، وأشارت إلى أنّ برلين "تواجه حالياً فقدان الضمانات التي تستند إليها في سياستها الخارجية"، معتبرةً أنّ "الألمان يهنأون بنومهم وبسلام، لأنّ القوات المسلحة الأميركية تضمن أمن أوروبا، وهذا ما يسمح للاقتصاد الألماني بكسب المال". في المقابل، ذكرت صحيفة "تاغس شبيغل" أنّ "الكثير من الألمان لا يرون في سحب القوات الأميركية ضرراً أو عقاباً، ويطالبون ترامب بسحب الأسلحة النووية (الموجودة في ألمانيا منذ الحرب الباردة)". واستذكرت كذلك الصحيفة التظاهرات الجماهيرية التي حصلت في أوقات سابقة ضدّ سياسات الولايات المتحدة، بينها حربها على فيتنام والتحالفات مع الديكتاتوريات اليمينية في أميركا اللاتينية، وانخراطها في سباق التسلح، والحرب على العراق في عامي 1991 و2003، وأساليب مكافحة الإرهاب، ومسألة معسكر غوانتنامو، والانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني. وبعد ذلك جاءت قضية التجسس على الحلفاء، بمن فيهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهو ما تم وصفه وقتها بـ"خيانة الثقة". وتسبب كل ذلك في أضرار وخيبات أمل، ولا سيما مع ممارسة ترامب للابتزاز.
ومع وصول أزمة الثقة بين البلدين إلى ذروتها، اعتبر الزعيم الأسبق للحزب "الاشتراكي الديمقراطي"، زيغمار غابريال، والذي شغل منصب نائب المستشارة، ووزير الخارجية لسنوات، أنه "يجب أن تكون هناك إجراءات واقتراحات عاجلة بالفعل لمواجهة الوضع الراهن، وقبل كل شيء مصارحة أنفسنا". وأضاف، في حديث لإذاعة "دويتشلاند فونك" أخيراً: "علينا أن نعرف أنّ أميركا ومنذ التحول الجيوسياسي في التسعينيات، وعلى عكس الأوروبيين، فكّرت في الوضع السياسي العالمي المتغيّر، ونما الإدراك لديها بمسألة التفكير بشكل أقل بأوروبا، لأنّ المحيط الأطلسي لم يعد مجالاً للجاذبية الاقتصادية والسياسية والعسكرية في العالم". ولفت إلى أنّ الرئيس السابق باراك أوباما كان قد عبّر في أوقات سابقة عن أنّ آسيا محورية لأميركا، معتبراً أنّ هناك اتجاها أكثر نحو المحيط الهادئ، حيث مصالح واشنطن الاستراتيجية والاقتصادية الجديدة.
ورأى غابريال أنّ "الصينيين سيحاولون بالطبع الاستفادة من الوضع الراهن في أوروبا، بعدما باتوا المنافس التكنولوجي والاقتصادي الجديد لأميركا. وبالنسبة لترامب، فإنّ العالم هو ساحة يسود فيها الأصلح، وبالتالي، على برلين تحديد مصالحها الخاصة وتوضيح الوسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تريد أن تحافظ عليها، وتحديد ما هو مهم بالنسبة إلينا نحن الأوروبيين، وعدم التعامل بسياسة خاصة ومنفردة مع الصين مثلاً". وتابع "إذا ما أردنا أن نصبح لاعبين عالميين، وفق ما ذكرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أخيراً، يتعيّن علينا اتباع سياسة دفاع وأمن أوروبية مشتركة، وأن يسبق ذلك سياسة خارجية مشتركة، وذلك مخافة أن ينتهي بنا الأمر أمام نوع من العمليات العسكرية".
وفي السياق، حملت بعض التحليلات في وسائل الإعلام الألمانية، الكثير من الخشية على مستقبل العلاقة بين برلين وواشنطن، مبرزة أنه "حتى وفي حال خسارة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية المنتظرة في الخريف المقبل، ووصول ديمقراطي إلى البيت الأبيض، فإنه لا يمكن الحديث عن تحسّن تلقائي في الشراكة عبر الأطلسي، ولا يجب الاستهانة بالمتغيرات، وعلى أوروبا بقيادة ألمانيا التوقّف عن النظر إلى الثعبان في الولايات المتحدة وكأنه أرنب". ورأت هذه التحليلات أنّ "مع ترامب أو من دونه، الوضع سيزداد صعوبة، وحتى حلف الأطلسي لن يكون آمناً، لأنّ هناك أغلبية في أميركا تقول الآن وداعاً لدور الشرطي العالمي. وعلى المدى المتوسط، سيتم تقليل الوجود العسكري في الشرق الأدنى والأوسط، وهذا ما سيجعل ألمانيا أقلّ أهمية".
القاعدة الأساسية التي بنيت عليها الصداقة بين ألمانيا وأميركا تنهار
في المقابل، اعتبر بروفسور الدراسات الأميركية في جامعة "غوته" في مدينة فرانكفورت أم ماين، سيمون فندت، في حديث مع "دويتشلاند فونك" أخيراً، أنّ العلاقات "لا تتضرر بشكل لا يمكن إصلاحه، إلا أنه علينا الانتظار حتى شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل (موعد الانتخابات الأميركية)، لنرى ما إذا كان ذلك سيتغيّر، واعتماداً على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة يمكن أن تتحسّن العلاقات مجدداً". ورأى فندت أنه "في حال فاز المرشح الديمقراطي جو بايدن، وجدّد التزاماته بعدها تجاه حلف الأطلسي، فهذا مؤشّر قد يعود ويدفع بالعلاقات إلى مستوى أفضل نسبياً". وتابع "أما إذا استمرت الصعوبات بعد الانتخابات، فقد يؤدي ذلك إلى توجه الألمان أكثر نحو أوروبا واعتمادهم عليها، وعدم العمل بالقدر نفسه مع الولايات المتحدة، بعد أن أدّت المصالح السياسة والاقتصادية مراراً وتكراراً إلى صراعات"، معتبراً أنّ "القاعدة الأساسية التي بنيت عليها الصداقة بين ألمانيا وأميركا تنهار بعد أن كانت نمت على مرّ التاريخ، وتهشّمت بشكل كبير خلال رئاسة ترامب، الذي لم يعد يقيم وزناً للتحالفات والشراكات الدولية، كما وللقيم الديمقراطية الأساسية".