ومع تصويت أغلبية مجلس النواب الأميركي بفرض عقوبات صارمة ضد روسيا بدأت تظهر علامات التململ في بعض دول الاتحاد الأوروبي، فهؤلاء يرون أن "العقوبات الاقتصادية يمكن أيضاً أن تضر بمصالح شركات الطاقة"، على الرغم من أن دولاً أخرى في الاتحاد تؤيّد فرض هذه العقوبات.
مشروع "نوردستريم 2"
ومن بين القضايا التي تثار في خلاف البعض الأوروبي مع واشنطن حول التعاطي مع روسيا يبرز مشروع خط الغاز "نوردستريم 2" كأحد أهم الأضرار التي يراها هؤلاء الأوروبيون. إذ يجد بعضهم نفسه وسط معضلة صعبة، فهو من ناحية يريد أن يلجم سياسات موسكو والإبقاء على تحالف قوي مع الضفة الأخرى من الأطلسي، ومن ناحية أخرى يسعى لدرء مخاطر الانقسام في البيت الأوروبي وامتداده إلى المفوضية الأوروبية.
وما تحمله حزمة العقوبات الأميركية المقترحة، توسيعاً لسابقاتها من العقوبات، بحيث تشمل أنابيب الغاز الروسية وتعريض شركات الطاقة الأوروبية للخطر، يدفع ببرلين وفيينا بشكل رئيس، بالإضافة إلى دول أخرى وصغيرة في الاتحاد الأوروبي، ورئيس المفوضية جان كلود يونكر، إلى الشعور بمخاطر ارتدادات هذه العقوبة على الأوروبيين أنفسهم.
وصوت 419 مقابل 3 في مجلس النواب الأميركي لصالح القرار فجر الأربعاء، وربما يندفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتمريرها بتوقيع يلقي بعيدا بعض الشكوك والجدل حول علاقات البيت الأبيض السرية بموسكو.
هذا الاختلاف الأوروبي - الأوروبي من ناحية، وخلاف بعضهم مع واشنطن حول صرامة العقوبات ضد روسيا، ليس بجديد. فعلى الرغم من أن الأوروبيين بادروا إلى التعاون مع أميركا في فرض عقوبات على روسيا، منذ أن تدخلت عسكرياً في أوكرانيا، وتصاعدت مع ضم شبه جزيرة القرم، إلا أن تضرر مصالح أوروبية، سواء مصدرون زراعيون أو شركات طاقة وغيرها، دفعت برلين، والمفوضية الأوروبية، لاستشعار خطورة الارتدادات الاقتصادية. إذ عادة ما تتحمل هي، وبدرجة ما دول أخرى، شد أزر الاقتصاد الأوروبي.
وبالرغم من الرغبة الأوروبية بتخفيف الاعتماد على الغاز الروسي، فإن سرعة العقوبات وصرامتها قبل أن يتفق الأوروبيون على بدائل الطاقة يبدو في نهاية المطاف في غير مصلحتهم.
اتهامات ألمانية
يبرز في ألمانيا وزير خارجيتها، الاجتماعي الديمقراطي، سيغمار غابرييل، كأحد أكثر الساسة الأوروبيين صراحة في انتقاد سياسة الحلفاء على الضفة المقابلة للأطلسي.
سيغمار غابرييل ليس معجباً باندفاعة واشنطن ويقدم شكوكه حول مقاصد واشنطن من فرض العقوبات على هذا النحو. إذ يرى الرجل، وفقاً لما تنقل عنه صحيفة، "سودوتش زايتونغ" قوله غاضبا أثناء مناقشة الأميركيين لحزمة العقوبات "ليس من المعقول أن يجري سوء استخدام مقاطعة الغاز الروسي لمصلحة بيع الأميركي".
وما يشك فيه غابرييل هو استخدام العقوبات ضد روسيا "لكي تشتري أوروبا الغاز الأميركي المسال بدل الروسي الأرخص ثمناً".
وتتفق المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مع وزير خارجيتها في الموقف من العقوبات الأميركية.
في حين يذهب يونكر في انتقاد هذه العقوبات الجديدة، كمفوض للاتحاد، باعتبار الأمر "تدخلاً أميركياً لا مبرر له في مسائل الطاقة الأوروبية وتهديداً للخط المشترك المنتهج أميركياً وأوروبياً في شأن العقوبات على مدى 3 سنوات ماضية"، بحسب ما تنقل عنه صحف اسكندنافية، اليوم الأربعاء، على وقع الجدل القائم حول خطر سيل الشمال "نوردستريم 2" في البلطيق بمحاذاة السويد والدنمارك، والمفترض الانتهاء منه مع نهاية 2019.
المفارقة الواضحة في موقف رئيس المفوضية يونكر أنه ليس من مؤيدي "نوردستريم 2"، كما كان المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر، لكن المفوضية طالبت بمنحها تفويضاً من الدول في الشمال للتفاوض حول الخط مع الروس بشروط صارمة أكثر مما كان الأمر عليه في السيل الأول، ما اعتبره يونكر تدخلاً أميركياً في شأن أوروبي سيادي.
خط الغاز هذا، نوردستريم 2، يثير أيضاً جدلاً داخلياً، اقتصادياً وسياسياً، في الدنمارك ودول البلطيق وبولندا.
ومع غياب تفويض ألماني للتفاوض مع الروس عن طريق الاتحاد الأوروبي، وموافقة ضمنية دنماركية، ذهبت بولندا ودول من البلطيق إلى اتهام ألمانيا بانتهاج سياسة "ازدواجية المعايير".
فمن ناحية يظهر الألمان تأييداً للأوكرانيين بوجه روسيا؛ ومن ناحية ثانية، لا تتخذ برلين سياسة صارمة بشأن خط الغاز سيل الشمال الذي سيتجنب مرور الطاقة عبر أوكرانيا لمصلحة شركات ألمانيا.
وعليه، يبدو موقف هذه الدول أكثر تأييداً للعقوبات الأميركية الصارمة ضد روسيا، بينما تتأرجح دول اسكندنافية بسبب علاقاتها التاريخية مع واشنطن من ناحية، وحاجة السويد لعلاقات دفاع معها، ومتطلبات الشركات الدنماركية المصدرة بتضررها من العقوبات، وخصوصاً في المجال الزراعي.
مأزق أوروبي
من الواضح أن العقوبات الأميركية تضع أوروبا في ورطة كبيرة، إذ تجد شركات أوروبية نفسها في دائرة الخطر. فعدد من شركات الطاقة الألمانية والفرنسية والهولندية والنمساوية تمول في الواقع خط "نوردستريم 2" بمقدار النصف.
وفي الوقت نفسه، يحاول الألمان الإبقاء على سياسة التوازن؛ إذ بينما تؤيد فرض عقوبات أوروبية صارمة للضغط على موسكو في شأن ضم شبه جزيرة القرم، مع استعداد لتوسيع العقوبات لتشمل المزيد على قائمة "عقوبات القرم" بسبب احتلال روسيا للإقليم، تقوم، وبشكل غير قانوني، ببيع توربينات غاز (المصدرة من سيمنز الألمانية) ونصبها في محطة توليد كهرباء في القرم التي ضمتها روسيا في 2014؛ فلا يبدو أن الألمان يتخذون ما يكفي، بنظر تلك الدول الأوروبية، لتضييق الخناق الاقتصادي على موسكو.
ويذهب مختصون في العلاقة الأوروبية الروسية إلى انتقاد لاذع لسياسة فرنسا التي انفتحت مؤخراً على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
اختلاف داخل المفوضية
يبدو أن الاختلاف الأوروبي حول العقوبات بحق موسكو وصل أيضاً إلى جسم المفوضية الأوروبية. إذ لا يمكن في هذا المجال القول إن المفوضية تدعم موقف رئيسها المنتقد لواشنطن بشكل كامل. ويبدو واضحاً أن نقاشات اليوم الأربعاء في المفوضية، وفقاً لتسريب مذكرة المناقشات الأوروبية، تشمل من بين أمور أخرى، زيادة الاستعداد الأوروبي للرد السريع على أية خطوات يستلزمها الأمر المتعلق بالتدخل الأميركي في شؤون الاتحاد وضمان عدم تضرر المصالح الأوروبية بالعقوبات، ولو من خلال الحصول على ضمانات أميركية في هذا الخصوص. وربما توكل المهمة الأخيرة، الحصول على الضمانات، لسيدة الدبلوماسية في الاتحاد فيدريكا موغريني التي تفضّل سياسة مقاطعة وعقوبات مشتركة بين ضفتي الأطلسي من دون مزيد من الضرر الذي ظهر في قمة العشرين في هامبورغ هذا الشهر، بين واشنطن وبروكسل.
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد عبّر يوم أمس الثلاثاء عبر تويتر عن مدى التدهور في العلاقة بين الطرفين، من خلال تهديده بمعاقبة الأوروبيين اقتصادياً بالطلب من الاتحاد الأوروبي "التوقف عن انتهاج سياسة حمائية جداً مع الولايات المتحدة".
وما يحاول الأوروبيون، بسياسة الدبلوماسية، "الإبقاء على خطوط اتصال مع شخصيات بارزة في الإدارة والكونغرس"، إذ يدرك بعضهم أن بعض هذه العقوبات ضد روسيا هي في الأساس لتقييد ترامب من رفعها بدون الرجوع إلى المشرعين.
وأظهر المضي الأميركي في تمرير تشريعات عقابية ضد روسيا، وما يرافقها من جدل بين الأوروبيين أنفسهم ومع الأميركيين، بأن التوتر المكبوت بين ضفتي الأطلسي يمكن أن ينفجر فتصيب شظاياه الاقتصادية الجميع.
ولهذا يبرز الآن دور الدبلوماسية التي تمثله تصريحات المتحدث باسم يونكر، مارغاريتيس شينغ، من أن "كل القنوات الدبلوماسية نشطة لمعالجة شواغلنا" وبأن الاتحاد الأوروبي "يتوقع الإنصات (الأميركي) لما يقلق الأوروبيين".
وبكل الأحوال فإن قضية الاختلاف في جدوى العقوبات الاقتصادية، كأداة ضغط على روسيا، بين ضفتي الأطلسي، ليست جديدة؛ فالأوروبيون بأنفسهم عانوا من انقسام داخلي حول الجدوى منها، مثلما عانوا أيضاً في العلاقة بسياسة العقوبات في زمن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
فقد ترددت المستشارة الألمانية، وكذلك فعل الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، إلى واشنطن وكييف وموسكو للبحث في ما يمكن فعله للخروج من مأزق ضم القرم وفرض مقاطعة وعقوبات مزدوجة التأثير على الأوروبيين والروس في آن معاً.
وليس خفياً أن عدداً من الدول الأوروبية لم يكن يشعر بأن العقوبات أثرت كثيراً على موقف فلاديمير بوتين، ومنهم وزير الخارجية الدنماركي السابق، مارتن ليدغورد، والذي وعلى الرغم من تأييده بعض العقوبات، إلا أنه في الوقت ذاته اعترف منذ أكثر من عام ونصف العام "إن العقوبات الاقتصادية لا تبدو كافية أو ذات تأثير كبير على الموقف الروسي".
ومنذ 2015 والجدل الأوروبي الداخلي مستمر حول جدوى تلك العقوبات، وكانت ترتفع أصوات بعض القطاعات الأوروبية تشكو من تأثيرها عليهم، كما في ألمانيا والدول الاسكندنافية وهولندا، وبصوت غير مرتفع فرنسياً، وفي غيرها، في حين كانت دول البلطيق وبولندا من أشد المتحمسين لفرض مزيد من العقوبات على روسيا، وهو ما يفسر ربما استمرار انقسام الموقف.