العقل المحبط

31 ديسمبر 2015
يرى العقل المحبط العيب في كل ما يحيط به(Getty)
+ الخط -
تناول مقال مترجم نشر عبر "ساسة بوست" دراسة في الأسباب التي أدت إلى أن يكون الشباب التونسي هو الأكثر التحاقاً بصفوف الحركات المتطرفة في كل من ليبيا وسورية، ولم تكن نتائج الدراسة التي أشار إليها المقال غريبة أو غير متوقعة، خصوصاً أنها تراوحت بين الاجتماعية والنفسية، مع الحديث عن الإحباطات التي ترافقت مع سقف التوقعات الكبير إبان ثورات الربيع العربي، والتي باتت سراباً بِفعل الثورات المضادة، إضافة إلى عودة الأنظمة العميقة بأشكال جديدة نفس المنتجات بأسماء مختلفة، أو بسبب التجريف الذي قامت به تلك الأنظمة للمجتمع في مختلف مجالاته السياسية والاجتماعية والثقافية، وهدم منظومة الأفكار السائدة في المجتمع واستبدالها بمنظومة متهالكة ترفع من قيمة الفُساد، والسُراق والاتكالية واللامبالاة، مع غياب للفاعلية والاعتماد على الذات.


وفي الواقع ثمة أسباب كثيرة متراكبة عند محاولة تفسير التطرف وعقلية التطرف، منها السياسي المرتبط بالأنظمة المستبدة، وهناك أسباب أخرى ذات بُعد أيديولوجي، إضافة إلى الأسباب الاجتماعية والاقتصادية... إلخ، غير أن هذه الأسباب لا تتافعل مع جميع أفراد المجتمع بذات الطريقة، حيث إن هناك من يُسجن ولا يتطرف، والمُعدم اقتصادياً ولا يتطرف، ومن يعاني إشكاليات اجتماعية عميقة ولا يتطرف، في المقابل نجد من يعيشون في بيئات ديمقراطية تعددية ويلتحقون بحركات التطرف، ومرفهين ينخرطون في حركات التطرف، مما يعني أن هناك أمراً محورياً يغيب عن مشهد دراسة التطرف، أسبابا مرتبطة بالفرد نفسه تؤثر عليه وتقوده إلى انتقاء خيارات دموية حدية يبحث فيها عن الخلاص، أو التغيير الفوري؛ النصر أو الشهادة!

إذن، فإن تلك الأسباب المرتبطة بالنفس الإنسانية هي الأبلغ وصفاً وتفسيراً كونها منطلق أي تغيير للأحسن أو الأسوء. وفي هذا السياق لا بد من الإشادة بكتاب "المؤمن الصادق" لعالم الاجتماع الأميركي إيريك هوفر الذي خصه الراحل غازي القصيبي بالترجمة لقوة طرحه وبلاغته في إضاءة عقل المتطرف من الداخل كما وصف القصيبي.

وينطلق إيريك هوفر من معادلة تبدأ بأمر بسيط ولكنه مقنع، فحجر الزاوية في التطرف هو الإحباط المركب من مجموعة مشاعر سلبية تجيش في صدر الإنسان ومنها الغضب والحزن والألم والعجز والسخط، حيث يرى العقل المحبط العيب في كل ما يحيط به، وينقل كل مشكلاته إلى عالمه المحيط الفاسد، ثم يتوق للتخلص من نفسه المحبطة وصهرها في كيان نقي جديد، وهنا يأتي دور "الجماعة الثورية الراديكالية" التي تستغل إحباط الفرد، وتجعل من نفسها البديل الذي يستغل كراهيته وإحباطه وحقده؛ فيحدث التقاء بين عقلية الفرد المحبط وبين عقلية القائد الإجرامي المنظم، ثم ينشأ "التطرف"، ومن التطرف ينشأ الإرهاب.

وهناك عاملان أساسيان لانجذاب العقل المحبط إلى حركات التطرف؛ أولاً الرغبة في التغيير، فيقول إيريك هوفر: تكمن فينا جميعاً نزعة البحث خارج أنفسنا عن العوامل التي تصوغ حياتنا، النجاح والفشل يرتبط بما يدور حولنا. فالعاجزون ينزعون إلى تحميل العالم جريرة فشلهم، (عندما يشكو المرء شيئاً يحول بينه وبين القيام بواجباته، حتى عندما يجد ألما في أمعائه، فإنه يبادر إلى محاولة لإصلاح العالم). فيسعى المحبط إلى التطلع إلى التغيير الكبير والمفاجئ في الأوضاع المعيشية، وتقدم الحركات الريديكالية بحماسة التغيير على طبق من ذهب لأولئك المحبطين.

والعامل الآخر هو الرغبة في البدائل، البديل عن الحياة التي يعيشها الفرد المحبط، فالحركة الجماهيرية تمنح العضو المنتمي لها بديلاً من الأمل الفردي الخائب، كما تقدم له الإيمان بقضية مقدسة ما، هو بحاجة إليه في محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقده بنفسه، وكلما استحال على الإنسان أن يدعي التفوق لنفسه، كلما سهل عليه أن يدعي التفوق لأمته، أو لدينه أو لعرقه، أو لقضيته المقدسة، كما قال غيفارا يوماً: (لن نشعر أن لدينا شيئا نستحق العيش من أجله ما لم نكن مستعدين للموت في سبيله).

وبذا يمكن استنتاج أن أي مجهود يحول دون تشظي الذات، ويتيح فرصاً جديدة وبداياتٍ جديدة سيساعد على تقليص الجماعات الراديكالية المتطرفة. كما تفعل المبادرات التطوعية في داخل كيان الدولة حيث إنها تقدم لأعضائها فرصاً لتطوير الذات وتحقيقها، وتقوم بتفريغ طاقاتهم في شكل بناء داخل منظومة المجتمع. أو إتاحة الفرصة للانغماس داخل عالم الفن والإبداع والتعبير عن الذات وآلامها وتفريغ كل أنواع الكبت الذي من شأنه أن يكبح جماح التفكير في الخلاص.

(البحرين)