لم يكن مؤسس الحركة الصهيونية العالمية، تيودور هرتزل، يتخيل، ولو لبرهة، وهو يفاوض السلطات البريطانية في هجرة يهود العالم إلى فلسطين، بأن يتحول العرب، الأعداء الحقيقيون للكيان الصهيوني، في يوم ما إلى مصدر مهم من مصادر تمويل خزانة دولة الاحتلال التي تخصص جزءا مهما منها للإنفاق العسكري الضخم وشراء الاسلحة وقتل العرب بها.
ولم يكن يحلم كذلك بأن تزيد الأموال المتدفقة من العرب على خزانة الاحتلال بعد أكثر من 70 سنة على تأسيس دولة الاحتلال على حصيلة أموال الضرائب التي يتم جمعها من الإسرائيليين أنفسهم.
ولم يكن هرتزل، المؤسس الحقيقي للكيان المغتصب، يدور في خلده، ولو لثانية واحدة، أن تتدفق مليارات الدولارات من ثروات العرب في يوم ما على هذا الكيان المغتصب ومؤسساته الاقتصادية والمالية ومشروعاته الاستثمارية، وأن توفر هذه المليارات فرص عمل لأولئك القادمين من شتى أنحاء العالم بحثاً عن "الحلم الموعود" و"إسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات.
ولم يتوقع دافيد بن غوريون وهو يعلن عن تأسيس دولة إسرائيل وبدء "جمع الشتات" في عام 1948 أن العرب سيضخون في عام 2020 مليارات الدولارات في شرايين الاقتصاد الإسرائيلي وقطاعاته المختلفة.
ولم يخطر ببال بن غوريون وهو يتولى منصب أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال أن العرب هم أول من يمدون أيديهم لإنقاذ الاقتصاد الإسرائيلي من مخاطر كورونا والتعثر والانكماش وتراجع الإيرادات المالية وزيادة الإنفاق العسكري، وأن أموال العرب ستنقذ الإسرائيليين من مخاطر الجوع والفقر والأمراض وسوء الأحوال المعيشية والبطالة في القرن الواحد والعشرين.
حتى قادة دولة الاحتلال التاريخيون أمثال ليفي أشكول وييغال ألون وغولدا مائير وإسحاق رابين ومناحم بيجن وإسحاق شامير وشمعون بيريز وأرئيل شارون وغيرهم لم يكن يخطر ببالهم، أو يحلمون حتى في الخيال، أن حكاما عربا سيحرمون مواطنيهم من ثروات بلادهم لتحويلها إلى خزانة دولة الاحتلال.
وبعدها تتحول هذه الثروات إلى أموال ومخصصات توجه لتمويل إقامة مدارس ومستشفيات ومصانع ومشروعات ومزارع على الأراضي العربية المحتلة، سواء في فلسطين أو في الجولان السوري وغيرهما، وربما يوجه جزءا من هذه الأموال لشراء أحدث أنواع الأسلحة والطائرات التي توجه لضرب أهالينا في قطاع غزة والضفة الغربية وسورية.
صفقة العمر
هذه الأيام من حق بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني أيضا أن يفخر بنجاحه في ضمان تزويد العرب اقتصاد الدولة المحتلة بعشرات المليارات من الدولارات طوال سنوات طويلة مقبلة.
ومن حقه نتنياهو أن يتفاخر بنجاحه في ضمان رفد خزانة بلاده المتعثرة بثروات هائلة من أموال شعوب مصر والأردن والإمارات وغيرها من الدول العربية لسنوات.
ومن حقه أن يتفاخر بإبرامه صفقتي العمر، كما أسماهما قبل نحو 3 سنوات، مع كل من القاهرة وعمان لتصدير الغاز المهنهوب إلى البلدين العربيين، والآن الصفقة الأكبر مع أبوظبي، وأن يعيد بيع الغاز الذي نهبه من منطقة شرق البحر المتوسط إلى الأسواق العربية، وأن يفرض على مصانع وبيوت القاهرة وشركات الكهرباء في عمان استهلاك الغاز المنهوب من المياه الإقليمية لكل من مصر ولبنان وفلسطين.
لم يكن هرتزل، يدور في خلده، ولو لثانية واحدة، أن تتدفق مليارات الدولارات من ثروات العرب في يوم ما على هذا الكيان المغتصب
في فبراير/ شباط 2018 أبرمت مصر صفقة ضخمة قيمتها 15 مليار دولار مع دولة الاحتلال يتم بموجبها استيراد غاز إسرائيلي لمدة 10 سنوات.
والملفت أن الصفقة، التي تم رفع قيمتها بعد ذلك إلى 19.5 مليار دولار، أصر الطرفان المصري والإسرائيلي على السير فيها على الرغم من إعلان السلطات المصرية عدة مرات اكتفاءها ذاتيا من الغاز الطبيعي، خاصة عقب اكتشاف حقل ظهر، أكبر حقل لإنتاج الغاز في منطقة شرق البحر المتوسط، بل وتصدير الفائض من الغاز المصري إلى الخارج.
ساعتها وصف نتنياهو الصفقة الضخمة مع مصر بأنها "صفقة العمر"، وأنها "ستعود بمليارات الدولارات على الميزانية الإسرائيلية وستعزز الاقتصاد الإسرائيلي وتقوي الروابط الإقليمية".
ونقل موقع "يديعوت أحرونوت" الإلكتروني عن نتنياهو يوم 19 فبراير 2018 قوله: "أرحب بالاتفاق التاريخي على تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر، الذي سيدرّ المليارات على خزينة الدولة لإنفاقها على التعليم والصحة، ويحقق الربح لمواطني إسرائيل".
ووصف وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتز الصفقة التي تم ابرامها بداية العام 2018 بأنها أكثر الصفقات التصديرية أهمية مع مصر منذ أن وقع البلدان معاهدة سلام تاريخية في عام 1979.
والملفت في الأمر أن مصر ستشتري ذلك الغاز الذي نهبته دولة الاحتلال من حقلي لوثيان وتمار الواقعين قبالة السواحل الفلسطينية المحتلة والمملوكين للشعب الفلسطيني، وأن الغاز بدأ التدفق بالفعل على الاراضي المصرية بدءا من العام الجاري 2020.
وصف نتنياهو الصفقة الضخمة مع مصر بأنها "صفقة العمر"، وأنها "ستعود بمليارات الدولارات على الميزانية الإسرائيلية وستعزز الاقتصاد الإسرائيلي
ولا يعرف أحد حتى اللحظة سر إصرار الجانب المصري على إبرام مثل هذه الصفقة المريبة مع الكيان الصهيوني، رغم تأكيد وزير البترول المصري، طارق الملا، أن جزءا من الغاز المستورد من إسرائيل سيوجه للاستهلاك المحلي وليس لإعادة التصدير كما تردد، ورغم تراجع الحديث عن تحول مصر إلى مركز إقليمي لإعادة تصدير الطاقة إلى الخارج في ظل حالة التوتير التي تسود منطقة شرق البحر المتوسط، وتوقيع اليونان وقبرص وإسرائيل اتفاقا لمد خط أنابيب تحت البحر بطول 1900 كلم، لنقل الغاز الطبيعي من شرق البحر المتوسط إلى أوروبا.
صفقة الأردن
تكرر المشهد مع الأردن حيث نجحت دولة الاحتلال في إبرام صفقة مع حكومة المملكة الأردنية يتم بمقتضاها شراء الغاز الإسرائيلي وتوريده من حقل ليفياثان البحري بموجب اتفاق قيمته 10 مليارات دولار ولمدة 15 عاما.
وعلى الرغم من الرفض الشعبي الواسع للصفقة مع الاحتلال، ومطالبة مجلس النواب الأردني في 26 آذار/ مارس الماضي الحكومة بإلغاء الاتفاقية، وتأكيد رئيس مجلس النواب عاطف الطراونة أن "اتفاقية الغاز مع العدو المحتل مرفوضة برلمانيا وشعبيا وعلى الحكومة إلغاؤها"، إلا أن السلطات مضت في اتفاق استيراد الغاز الإسرائيلي حيث تم بدء الضخ في بداية شهر يناير 2020.
وعلى الرغم كذلك من وجود بدائل رخيصة وأقل كلفة للغاز الإسرائيلي، منها الغاز الجزائري والعراقي والليبي والمصري، إلا أن السلطات الأردنية أصرت على أن تدخل الاتفاقية مع دولة الاحتلال حيز التنفيذ، وأن تضخ الخزانة الأردنية التي تعاني من عجز مالي ضخم 10 مليارات دولار في شرايين الاقتصاد الإسرائيلي.
والآن وصلنا إلى المحطة الأهم والأخطر في ملف التطبيع الاقتصادي العربي الإسرائيلي وهي تطبيع العلاقات بين الاحتلال والإمارات التي تمتلك صندوقاً سيادياً تقدر استثماراته بنحو 800 مليار دولار.
الصفقة الأكبر مع أبوظبي
التطبيع الأحدث بين تل أبيب وأبوظبي سيفتح الباب على مصراعيه لاستفادة الاقتصاد الإسرائيلي المتعثر من مليارات الدولارات المتدفقة من الدولة الخليجية، والاتفاق بين الدولتين سيمنح الشركات الإسرائيلية فرصاً هائلة في الأسواق الخليجية، وبالتالي زيادة التصدير بشكل كبير إلى الإمارات وعبرها إلى الدول العربية الأخرى كما قالت صحيفة "غلوبس" الاقتصادية العبرية التي توقعت، أول من أمس، أن يسهم اتفاق التطبيع الكامل مع الإمارات في تحسين الأوضاع الاقتصادية لإسرائيل بشكل كبير.
ويبدو أن الإمارات في عجلة من أمرها، فقد سارعت بتطبيق خطوات التطبيع الاقتصادي على الفور، حيث وقّعت شركة أبيكس الوطنية للاستثمار الإماراتية اتفاقاً مع مجموعة تيرا الإسرائيلية، للتعاون في مجال الأبحاث والتطوير المرتبط بفيروس كورونا، ليعد الأول بين شركتين من الجانبين بعد إشهار التحالف الإماراتي الإسرائيلي، والذي أثار موجة غضب في أوساط الشعوب الرافضة للتطبيع مع الاحتلال.
وبعد تدفق مليارات مصر والأردن والإمارات على دولة الاحتلال وخزانتها الخاوية، لا نعرف أياً من الدول العربية في الطريق، السعودية أم البحرين أم دول أخرى؟
العرب باتوا يساندون اقتصاد دولة الاحتلال، وأموال العرب وضرائب شعوبهم باتت توجه لتمويل مؤسسات الكيان الصهيوني وتغطية عجز موازنة إسرائيل العدو التاريخي لهم... والحكومات العربية تجبر دافعي الضرائب في بلادها على سداد كلفة إقامة مدارس ومستشفيات ومصانع ومشروعات ومعسكرات يؤسسها الاحتلال في الأراضي المحتلة.. يا لسخرية القدر.