من بين التحديات الاصطلاحيَّة الراهنة، التي تواجه العربية المعاصرة، إيجادُ مفردات دقيقة لتسمية المدلولات المتعلقة بالبيئة والمحيط الطبيعي، سواء استُخدمت تلك المفاهيم في دائرة الممارسة السياسية، أو ضمن الالتزام الفكري بمبدأ المحافظة على البيئة، أو في ميدان إشهار المنتوجات البيولوجية، والتبادل التجاري والسياحي ذي الطابع الإيكولوجي.
وتُعد جلُّ هذه المفاهيم، كما استخدامها في هذه السياقات التواصلية، حديثة العهد في معجم لغة الضاد، فهي تشكل دائرةً مبتكرة، لم يُتطرَّق إليها من قبل لا توليداً ولا تنظيراً، عدا كلماتٍ مبثوثة هنا وهناك حول الطبيعة بمعناها الميتافيزيقي أو بحسبانها مصدر إلهامٍ رومانسي.
ولذلك نشط القائمون على التوليد المعجمي، ومنهم صحافيون وسياسيون، في ابتكار سلسلة من المفاهيم والمفردات تحيل بوضوحٍ على هذا الحقل، بمعناه الجديد المُؤنسَن، حتى يواكب العربُ ولغتهم وتائر التطوّر في هذا القطاع الحيوي. فكيف رسم خطاب البيئة عبارات هذه المرجعية، بعد أن باتت رهاناً محورياً في الفكر المعاصر؟
أول ما يلاحظ وجود حقل دلالي ما انفك يغتني حول هذا الموضوع، ومن مفرداته البارزة كلمة "البيئة" وهي مصدر مشتق من فعلٍ فصيح، موغل في القدم: باءَ/يَبوء، بمعنى: عاد إلى مَحلٍّ يكسوه جمال الطبيعة، ومنه صيغت عبارات مثل: باءَ بغضبٍ، أي: رجع مغضوباً عليه، وتَبَوَّأ مكانة عُليا، أي تمكن فيها. ومن بين اشتقاقاته الأخرى مفردة الباءة وهي القدرة على الزواج، والعودة بالعروس إلى مَغنى الزوج وربوعه.
وبعيداً عن هذه المعاني، ذات الطابع البدوي الكلاسيكي، صيغت مفردة "البيئة"، بدلالتها المعاصرة المشيرة إلى المحيط الطبيعي بما يتوفر عليه من ثروات ومناظر ومغانٍ. كما ترسّخت مفردة "المَناخ"، الدارجة اليوم بكثرة في السياقات السياسية، لا سيما عند التحذير من التغييرات الكبرى، وهي اسم مكان من فعل قديم: أناخ/ينيخ الناقة، أي أبركها في الموضع الذي تناخُ فيه الإبل. ثم استقرت المفردة بعدها للإحالة على الجو وطبقاته، وأقاليم الكرة الأرضية وهوائها.
ولعل من حسن حظ هذه الكلمة أنها استُعيرت، في اللغة الفرنسية، لتحيل على التقويم الخاص بمناطق الأرض بعد أن قُسِّمت إلى وحداتٍ جغرافية، ثم تطوّرت دلالتها وارتبطت بأهم التواريخ الفارقة والأعياد والمناسبات المقترنة بمواسم الزراعة والحصاد.
وبرزت، ثالثاً، على الصعيد السياسي، كلمة "خُضر"، جمع "أخضر"، بعد أن انتقلت عبر وسيلة الترجمة الحرفية، فوَردت بمعنًى حديث يشير إلى مَن يتبنَّى الفكر المحافظ على البيئة، ويجعل منها صميمَ اهتماماته وبرامجه الانتخابية، حتى تشكلت حول هذه الإيديولوجية أحزاب وجماعات ضغط، ولا سيما في ألمانيا.
واعتمدت العربية المعاصرة بالإضافة إلى ذلك كلمات مستعارة من لغات أوروبا مثل: "إيكولوجيا" و"بيولوجيا"، استجلبت عبر آليتيْ التعريب والنقل الصوتي، للتعبير عن فكرة ربما أشمل عن الطبيعة بوصفها إطار الحياة الأمثل. ولعل هذا النقل الحرفي يخفي إحساساً ما بأنَّ المقابلات العربية - وليس عزيزاً إيجادها - لن تحقق المضمون المعرفي والسياسي الحديث المرتبط بفكرة الطبيعة محوراً للممارسة الإنسانية وغاية للوجود.
ومع تعدد المفردات المحيلة على هذا الحقل الدلالي الشامل للبيئة، تجدر الإشارة إلى أهمية إنجاز معجم خاص بمصطلحاتها، يتتبع دلالاتها في كتب التراث إلى يومنا هذا، في منظورٍ كرونولوجي، يحصر المعاني ويحقق الفويرقات، إذ لا تخفى العلاقة الجدلية بين وجود اللغة كمدلولات ذهنية ووجود الوعي الذي يصوغها، فإن أريد للبيئة أن تصبح إشكالاً منهجياً، يُبحث عن معضلاته في نصوص الفلسفية التراثية، التي عالجته تحت مُسمى: الطبيعة، كما ضمن الاهتمامات الإيكولوجية الحديثة، فلا بد من حصر الكلمات المحيلة عليها، والقيام بِعَلمَنَتها، بمعنى تحريرها من الشحنات الميتافيزيقية التي أثقلتها طيلة قرون.
ومن نماذج النهج الفلسفي التراثي في تصوّر الطبيعة، تعريف ابن رشد على سبيل المثال، للحكمة بأنها "ليست شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصَّانِع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإنَّ الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتمَّ كانت المعرفة بالصانع أتم". وستمكّن القطيعة -إن حَصلت- من اعتبار الطبيعة ليس كدليلٍ يشير لغيره (الخالق)، بل كإطار كوني للحياة، يستفيد منه الإنسان في تحسين ظروف معيشته ويستثمره، بوصفه كائنًا حيا، في تحقيق السعادة والتوازن.
ومن مظاهر هذه التحولات استحداث وزارات خاصة بالبيئة والمحيط، في كل البلدان العربية تقريباً، وإيلاؤها مهمة السهر على ثروات الطبيعة وتوزيع خيراتها والحفاظ عليها عبر برامج وفعاليات. فهل يدلّ هذا التحوّل على وعي حقيقي بأهمية هذا الرهان أم هو مجرّد تلاعب سياسي، تقوم بها السلطات لاجتناء الدعم من المؤسسات المالية العالمية، وتلميع صورتها في الداخل والخارج؟
ومن اللافت أيضاً أنَّ الآلة الرأسمالية الاستهلاكية قد ركبت موجة الفكر البيئي وعملت على استحداث قطاعٍ كاملٍ من المنتوجات التي تحافظ - حسب شعاراتها - على المحيط ولا تستنفد خيراته كما تشجِّع على التبادل العادل بين مناطق الإنتاج الزراعي في مختلف أنحاء البسيطة. وقد ترتب عن هذه الحيويَّة الاقتصادية تنشيط الوسائل التوليدية لتبتكر من المفردات والعبارات ما تصاغ بمادتها الشعارات والوصفات وصار في لغة الضاد ما به نتحدث عن هذا القطاع الجذاب.
ومهما يكن من أمر، فالثابت الآن هو وجود حقل اصطلاحي واسع ودقيق، تستخدمه السلط السياسية والاجتماعية، خطاباً عن البيئة وترشيد التصرف في ثرواتها، هو يتألف من مفرداتٍ ثابتة الإحالة على هذا المرجع.
ولعله من المفيد البحث في العلاقات المنعقدة بين السياسة كحركة تأثير في المجتمع وبين الوعي البيئي كحركة تأثير في الطبيعة، وكيف يمر كلاهما عبر هذه المعجم المستحدث، رغم أنَّ وحداته لا تزال أسيرة إما لتصورات قَبَلية بدوية أو رهينة لتأثير الترجمة والتعريب (مثل إيكولوجيا). أي إنها منحدرة إما من السياقات الشعرية المتغنية بالطبيعة كبيئة، أو في كتابات العلماء، (مثل الفلاحة النبطية)، في العصور الوسطى، أوهي مستعارة من الفكر الغربي الجاهز حول البيئة.
يجدر بنا التساؤل: هل يمكن أن تكون قضية البيئة مشغلاً أساسياً في بلادنا العربية كما في الغرب، في ظل تدمير الإنسان لنفسه وللطبيعة، في ظل ما تشهده المنطقة العربية من حروب، وتحت أنظمة غاشمة، تساهم هي الأخرى في تدمير الإنسان والطبيعة معاً، وقد يشاركها الغرب في صمتٍ ومواربة؟