العربية في حضرة الفظاعة

27 ديسمبر 2015
ديانا الحديد/ سورية
+ الخط -

ما نظنُّ أن اللغة العربية أنتجت في أي عصرٍ من عصورها السابقة ما تُنتجه اليوم من عباراتٍ وصُور ومَجازات تحيل على فَظاعة الموت وهول الدماء وعدمية البؤس.

لقد أدّت الحروب الأخيرة، وما سبقها من ثورات وما تلاها من تمزّق الخرائط العربية، إلى ظهور كمٍّ هائلٍ من الكلمات التي تشير إلى ألوان البؤس اللامتناهي، يعيشها العرب وتنقلها وسائل الإعلام فيطّرد استعمالها وتشيع معانيها.

وقد اعتمد التوليد المعجمي، بوتائره المتسارعة المُكثّفة، على آليات دلالية ومصطلحات عديدة ليواجه هذا الكمّ الهائل من المرجعيات الجديدة التي لم يعهدها.

ومن أمثلة هذه التحوّلات المتعاقبة - في مستوى البنية والدلالة- التي يسايرها التوليد الاشتقاقي، يكفي أن نأخذ الجذر الثلاثي (ف، ج، ر) الذي كان - في صحرائه المشرقة- يدلّ على انبثاق ضوء الصبح الوليد، أوَّل النهار، فإذا به -اليوم- يُشتقّ منه فعلُ التفجير، وتوابعه من المتفجِّرات القاتلة والانفجارات المدويّة، والتفجيرات التي تأتي على الأخضر واليابس، وهكذا اتّصلت مشتقّات هذه المادّة بالقتل في أفظع أشكاله، بَعد أن كانت تشيرُ إلى إطلالة الصبح في أبلج أنواره.

وعندما نعالج مجال الممارسات "الجزائية" تهولنا العودة إلى مفردات القرون الوسطى وبعثها من وهدتها، بسبب إحياء المنظّمات الإرهابية للعقوبات الوحشية شعيرةً واحدةً لما يظنّونه من جوهر الديانة، فيروعنا الاسترجاع المعجمي لحقلٍ مُفرداتي بغيض، يحيل على أشنع شناعات الماضي، فتطفو إلى سطح الاستعمال كلمات مثل: التحريق والإلقاء من شاهقٍ والرجم وقطع الأطراف وسمل العيون والجَلد والبتر..

إنها كلمات ظَنَّ العالَم أن بطون المعاجم طوتها بلا عودة، فإذا بها تتمرّد على مُغلقات صفحات القواميس الصفراء، وترجع واقعاً بائساً، يهول المسلمين قبل الغربيّين. كيف لا؟ وقد عمل أجِلّة علمائهم - القرون الطويلة - بقاعدة : "تُدرَأ الحدود بالشبُهات".

وننظر تلقاءَ المَجال الدلالي، الذي تناولته مقالة في "العربي الجديد" عن "القوّة الناعمة" الشهر الماضي، آملاً أن تطالعنا كلماتٌ فيها بعض الرفق، فإذا بنا أمام نسيج دلالي سداه ولُحمته: قمع إداري وحجب واعتقال وإخفاء قسري ومنع للمعلومات وإبعاد وحرمان من الحقوق وخنق للكلمة واعتقال... وكلّها صور دالّة على حجم العنف الذي تمارسه الأنظمة الدكتاتورية بقفّازات السلطة البيضاء.

ونتوجّه على سبيل التجربة والاستقصاء نحو منظّمات الإغاثة عسانا نظفر ببعض الغيث في ما يحمله هذا المصطلح من معاني التضامن والتراحم، فنُصدَم بجزع من يُسعى إلى إغاثته، وتغرقنا عبارات: المشرّدين والأنقاض، والمبتورين، والتائهين، والمردومين وجحافل اليتامى في البرد والعراء..

حرّكت العربية المعاصرة كلّ إمكانياتها التوليدية ونشّطت آليات المواضعة فيها كي تواجهَ عمق التحوّلات العنيفة التي لم تعرف حجم فظاعتها منذ الحرب الكونية الثانية، ولم تتّسم هذه الحيوية بالوفرة والكثافة فقط، بل بقدرتها الإيحائية بما في مراجعها من العبثية والدماء. وصار العربي يعيش الفظاعة مرّتين، بل يموت معها مرّتين: حين يضرب الحدث، وحين يستعيده، أي: وقت حصوله ووقت توصيفه.

ولا ندري أيّ الفظاعتين أنكى وأبأس، ولا مِن الأطراف أيّها أعتى. فهل الفظاعة وليدة الكتابة؟ أم هي أمّ الكتابة، تكتوي بنارها فتصفها بكلمات تنقل الأهوال. ولا جناح على الكتابة فهي محاكاةٌ.


* باحث وأستاذ جامعي تونسي/ فرنسا


اقرأ أيضاً: جدل الفصحى والدارجة: بين التعلل والبرهنة

المساهمون