العراق وسورية في مرمى الـ"درونز" الأميركي

14 سبتمبر 2014
مشهد باكستاني سنراه بالمنطقة للاحتجاج على مجازر "درونز"(فرانس برس/getty)
+ الخط -

يحلّ ضيفٌ ثقيلٌ على المنطقة قريباً، هو برنامج "درونز" (الطائرات من دون طيار) الذي أنشأته "سي آي إيه" قبل عشرة أعوام، ولقي انتقادات واسعة كونه غير شرعي ويخلّف المجازر. ذلك الضيف سيكون شريكاً أساسياً في التحالف الدولي ضدّ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، بحسب خطة باراك أوباما التي أعلنها قبل أيام، واقتدى خلالها بما حققته إدارته في الصومال واليمن وباكستان. لكن تنفيذه يتطلب تعاون السلطات المحلية، إضافة إلى قواعد عسكرية قريبة لانطلاق غاراته منها.


وما إن أطلّ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) برأسه، حتى شهرت الإدارة الأميركية سلاحها الفتاك، ذلك الذي تتباهى فيه منذ سنين، مدّعية أنها استأصلت من خلاله أبرز قيادات عدوّها "القاعدة"، من باكستان إلى الصومال واليمن، من دون أن يكلّفها ذلك إنزال جندي واحد إلى الميدان.

إنّه سلاح غير قانوني، كونه ينتهك سيادة الدول عبر شنّ غارات داخل أراضيها. والسلاح الذي يرتكب جرائم ضدّ الإنسانية، كونه يخلف مجازر وعشرات القتلى من المدنيين أثناء استهدافه مسلّحين مطلوبين لدى واشنطن. حتى أنه سلاح يخالف القوانين الأميركية نفسها، بما أنّ المسؤول عنه جهاز مهمته جمع المعلومات، وليس القيام بعمل حربي، وسلاح "السوق" الغامض، الذي يقف وراءه مرتزقة الحروب.

وعند إعلانه استراتيجية محاربة تنظيم "داعش"، والتي تضمنت خطة من أربع نقاط، اقتدى باراك أوباما بنموذج "الدرونز"، مؤكداً أنّ الحرب التي يحشد لها لن تتطلب إرسال جنود أميركيين إلى ساحات القتال و"ستكون مماثلة للاستراتيجية التي تطبقها إدارته بنجاح في اليمن والصومال منذ سنوات".

وقد دخل هذا السلاح بالفعل في الحرب ضدّ "داعش"، قبل إعلان أوباما هذا، عبر تنفيذ هجمات داخل بلاد الرافدين منذ يونيو/حزيران الماضي، بحيث تجاوزت الغارات الأميركية في العراق الـ 148، يُعتقد أنّ معظمها نفّذتها طائرات "درونز"، فيما يستعد للدخول إلى سورية، حيث نفّذت طلعات جوية لاستطلاع مواقع "داعش". ولا يُستبعد أن يطال الأراضي اللبنانية، وتحديداً جرود المنطقة البقاعية الشمالية، حيث للتنظيم موطئ قدم.


في الخلاصة، على أبناء المنطقة أن يستعدوا لغارات مفاجئة، تأتي كالبرق. تخطف في طريقها أرواح من صودف وجودهم في مكان يُشتبه أنّ مسلّحاً تابعاً لـ"داعش" قريب منه، على أن يصدر من واشنطن في اليوم التالي بيان يقول إن غارة استهدفت "إرهابيين" ونالت من قادتهم، فيما يشيّع أبناء المنطقة قتلاهم، في نسخة شبيهة لما جرى على مدار السنوات الماضية في المناطق القبلية الباكستانية واليمن والصومال.

سلاح أوباما "الفتّاك"

رغم محاولة أوباما قطع صلة الوصل مع حكم سلفه جورج بوش، بعدما حمّله وزر الانتكاسات السياسية وتدهور صورة أميركا "الديمقراطية والإنسانية"، فإنّه استورد من إدارته أكثر البرامج انتهاكاً لحقوق الإنسان وسيادة الدول. بل عمل على توسيعها إلى حدّ اعتبارها التكتيك رقم 1 في محاربة "الإرهاب".

يقول مكتب الصحافة الاستقصائية الذي يرصد هجمات "درونز" في باكستان منذ عام 2011، إنّه منذ تسلّم أوباما السلطة، كانت هناك ضربة جوية كل أربعة أيام، وإنّه شنّت نحو 180 ضربة منذ تسلّم منصبه (حتى عام 2013). وأحصى المكتب حتى 6 أغسطس/آب 2014، 339 ضربة جوّية منذ تسلم أوباما السلطة في باكستان وحدها. فيما يتبين أنّه خلال حكم بوش كانت تشنّ غارة واحدة كل 43 يوماً.

بالنسبة للأميركيين، فان سياسة "درونز" أثبتت نجاعتها، وهي خيار "الضرورة"، في ظل عدم وجود أي قوات على الأرض. في اليمن، قضت تلك الضربات على أبرز قيادات "القاعدة"، في مقدّمتهم أنور العولقي، كذلك فعلت مع قيادات "طالبان" في باكستان، وأخيراً مع حركة "الشباب" في الصومال، والتي قُتل زعيمها أحمد عبدي غودان في ولاية شابيلا السفلى قبل أيام. ويتباهى رجال إدارة أوباما بأنّ "القاعدة" أو "طالبان" يشتكيان من أنّ تلك الضربات تقتل قادتهما بوتيرة أسرع مما يجري استبدالهم.

وإن كانت الضربات التي شُنّت في عهد بوش قد استهدفت قادة التنظيمات "المعادية" للأميركيين، فإنّها في عهد أوباما توسّعت لتشمل مخيمات التدريب في باكستان، وذلك كان سبباً أساسياً في ارتفاع عدد الضحايا المدنيين، لأنّه في كثير من الأحيان، كانت تقصف تجمعات في المنطقة القبلية الباكستانية، بحجة أنّها تضم مسلّحين من "القاعدة" أو "طالبان"؛ تجمع ليس بالضرورة بهدف التدريب أو في إطار عمل تلك التنظيمات، وإنما قد يكون أي تجمّع "عائلي" لأحد هؤلاء المسلّحين.

حين استهدفت طائرة استطلاع من دون طيار بيعة الله مسعود، مؤسس حركة "طالبان ـ باكستان" في الرابع من مارس/آذار 2009، كان الرجل برفقة زوجاته، على أسطح إحدى المنازل، يأخذ قيلولة الظهيرة، فيما كان أوباما يجلس في الغرفة البيضاوية، يشاهد مباشرةً على الشاشة كيف سيسقط الرجل ومن حوله بصاروخ أطلقته تلك الطائرات (على ذمة سيمور هيرش في تحقيق له حول "درونز"). ويبدو أنّ أوباما انتشى في النصر الذي حققه في حينه، فأمر بتوسيع ضربات "درونز" لتشمل بلوشستان، تزامناً مع إرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان.

السلطات المحلية

في الظاهر، تُعلن السلطات المحلية (أكانت حكومية أو من يملك السيطرة على الأرض من زعماء قبائل أو أمراء حرب) معارضتها لشنّ مثل تلك الهجمات، أو تلتزم الصمت حيالها، وأحياناً تُدين. لكن في الواقع، فإن أياً من تلك الضربات ما كان ليحصل لولا تواطؤ السلطات العسكرية والسياسية، بل في كثير من الأحيان بطلب منها.

في باكستان، لا تُشنّ أي ضربة في المنطقة القبلية الشمالية الغربية من دون تنسيق مع الجيش، رغم النفي المعلن والمكرّر للمؤسستين السياسية والعسكرية. وقد لاحظ مكتب التحقيقات الصحافية في أغسطس/آب 2013، "تواطؤ زعامات محلية أيضاً". وأورد مثالاً على ذلك، مشيراً إلى أنّ أربع غارات ضربت باكستان، في ذلك التاريخ، جرت في منطقة يسيطر عليها حافظ غول باهادور، وهو أمير حرب وقع اتفاقية سلام مع الحكومة الباكستانية. وبحسب زعماء قبائل في المنطقة، فإن اتفاقية السلام تلك كانت سبباً في شنّ غارات أميركية في المنطقة.

لهذا السبب، تعمل الإدارة الأميركية على تنسيق عملياتها مع السلطات المحلية في العراق. أما في سورية، فلا يزال من غير المعروف من هي السلطات المحلية التي سيتم التعاون معها، وما إذا كانت سلطات الرئيس بشار الأسد، وخصوصاً بعدما نفذت المقاتلات الأميركية طلعات جوية في السماء سورية قبل أسابيع، لاستطلاع مواقع "داعش"، من دون أن يصدر أي تعليق من نظام الأسد.

ضحايا مدنيون

التمييز بين ضحايا البرنامج من المدنيين والمسلّحين، غير واضح، رغم ادّعاءات السلطات الأميركية أنّ غالبيتهم مسلّحون (تتحدث عن نحو 83 في المئة). لكن هناك جهود قامت بها مؤسسات غير حكومية لتوثيق جرائم "درونز" وانتهاكاتها. ومن جملة هذه المؤسسات، مكتب التحقيقات الصحافي، الذي يعمل على توثيق أسماء الضحايا الذين سقطوا في غارات "درونز" وفق برنامج "نايمينغ ذا ديد". وتبيّن للمكتب (في تقرير نشره في 31 يوليو/تموز الماضي)، أنّه من بين 700 شخص قتلوا في غارات "درونز"، 323 منهم كانوا مدنيين، وبينهم 99 طفلاً.

وبحسب المكتب، فإنّ توثيق أسماء جميع الضحايا لم يكتمل بعد، إذ لم يوثق غير 700 من أصل 2342 أُعلن عن مقتلهم. فيما تشير مصادر أخرى إلى مقتل 2851 شخصاً في 369 غارة شُنّت ما بين 2004 حتى 2013، غير معروف عدد الضحايا المدنيين بينهم.

كما وجدت دراسة لـ"نيو أميركان فاونديشين" في فبراير/شباط 2010، حملت عنوان "عام الدرونز"، أنّ من بين 114 ضربة نفذت ما بين عامي 2004 و2010، قتل ما بين 834 و1216 شخصاً، وأنّ 2/3 من القتلى مسلّحين، فيما الثلث الباقي من المدنيين.

الارتفاع الملحوظ في تلك الضربات، في عهد أوباما، وسقوط الضحايا المدنيين، طرح مسألة قانونية ذلك البرنامج، وشرعية السلطة المخولة إدارته والإشراف عليه.



بين الاستخبارات ووزارة الدفاع

وإذا كانت الإشكالية القانونية لتلك الضربات تتعلق بانتهاكها سيادة دولة أخرى، وشنّ "عمل عدائي"، فإنّها بالنسبة للأميركيين، ترتبط بـ"الجهة" التي تمنح لنفسها صلاحية القيام بعمل حربي. وهذا بطبيعة الحال، يعود إلى العقيدة الأميركية، التي تؤمن بـ"سموّ قوانينها الوضعية" على القوانين الدولية.

وهذه الجهة بالنسبة لهم، يجب أن تكون وزارة الدفاع. وتعرضت "سي آي إيه"، المسؤولة عن البرنامج، للانتقادات خلال السنوات الماضية، تمحورت حول شرعية قيامها بعمل حربي. وفي هذا الخصوص، يقول البروفيسور في جامعة "جورج تاون"، غاري سوليس، إنّه طالما أنّ المسؤولين عن البرنامج في "سي آي إيه" هم من المدنيين المتورّطين في نزاع مسلّح، فإنّ ذلك يجعل منهم "مقاتلين غير شرعيين، وقد يقتضي الأمر محاكمتهم".

ونتيجة الانتقادات التي تعرض لها البرنامج، وضع أوباما قبل نحو ثلاثة أعوام إجراءات صارمة لناحية "تنفيذ هذه الغارات"، ومن ضمنها خطة غير معلنة بنقل البرنامج جزئياً من "سي آي إيه"، إلى وزارة الدفاع (البنتاغون) لتكون معرّضة للمحاسبة بشكل أوسع. ومُنذ ذلك الحين، بات البرنامج المثير للجدل في عهدة مؤسستين، لكن بقي الحدّ الفاصل بينهما يكتنفه الغموض. وبحسب صحيفة "واشنطن بوست"، فإنّه في سبتمبر/أيلول 2011، كان هناك نحو ثلاثين طائرة استطلاع تعمل تحت إشراف "سي آي إيه" في أفغانستان وباكستان، وكان يوجه تلك الطائرات طيارون من القوات المسلّحة الأميركية الجوية داخل قاعدة غير معروفة في الولايات المتحدة.

ويدير عمليات "سي آي إيه"، مركز الوكالة لمكافحة الإرهاب ومقرّه في لانغلي ـ فيرجينيا (كان ذلك في سبتمبر/أيلول 2011)، ويعمل فيه ألفا عميل. وبالنسبة للطائرات التي تشرف عليها وزارة الدفاع، فإنّها تنطلق من قواعد "كريش" و"هولومان".

غير أنّ تقاسم هذه المهمة بين مؤسستين لم يسلم بدوره من الانتقادات. ويقول مجلس العلاقات الخارجية (في ورقة أعدّها في أبريل/نيسان 2013)، إن العقبة الأساسية في "شرعية ومدى" العمليات العسكرية الأميركية في الخارج، هو الانقسام الحاصل بين قيادة العمليات الخاصة المشتركة (JSOC)، التابعة لوزارة الدفاع، ووكالة الاستخبارات المركزية، خصوصاً أنّ الإدارة الأميركية لا يمكنها (قانونياً) أن تكشف عن عمليات "سي آي إيه" السرّية.

ولمّا كانت الضغوط متزايدة على الإدارة لاعتماد الشفافية في برنامج "درونز"، دعت الورقة الرئيس الأميركي إلى نقل مهمة تخطيط وإدارة العمليات التي تستهدف القتل في الخارج إلى وزارة الدفاع بالكامل. واعتبرت أنّ عمليات القتل الأميركية في الخارج باتت غامضة ومعقدة بسبب تشتتها بين مؤسستين تعملان من أجل الهدف نفسه، مشيرةً إلى أنّ كل غارات "درونز"، أكانت التي تشنها وزارة الدفاع أو الـ"سي آي إيه"، تستهدف الأشخاص نفسهم، فيما تملك المؤسستان سياسات وآليات للمحاسبة والإشراف تختلف عن بعضها البعض. وتعتبر أنّ انقسام البرنامج بهذا الشكل، من شأنه أن يسمح بوجود ما وصفتها بسياسة "الإنكار" من قبل "سي آي إيه".

وتقع العمليات التي تقوم بها "سي آي إيه"، تحت بند "العمليات السرية الخمسين"، وتلك عمليات لا يُسمح للإدارة أن تكشف عنها. فيما تنفذ وزارة الدفاع عمليات "درونز" تحت البند العاشر من ميثاق "القوات المسلحة"، والذي يقتضي العلنية.

في شهر أيار/مايو الماضي، نقلت تقارير أميركية عن مسؤولين وعاملين في برنامج "درونز"، إنّ الأخير قد توقف، تحديداً من قبل وزارة الدفاع. لكن تبيّن أن "سي آي إيه" أو وزارة الدفاع ماضيتان في هذه الغارات، وبشكل مكثف، وسيكون لها فعلها في الحرب المشرفة على "داعش".

المساهمون